من مهد الرأسمالية... إلى مهد الاقتصاد المخطط
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كانت أفكار آدم سميث في القرن الثامن عشر ثورية وقتها حيث نادى بحرية الأسواق، ووقف ضد فرض الضرائب الجمركية ومنح الإعانات، وأثرت في ما بعد في نشوء النظام الرأسمالي الذي استفاد من الثورة الصناعية آنذاك. جاءت أفكار آدم سميث لتحطم الأفكار التي كانت شائعة في بلده اسكتلندا وعموم بريطانيا، والتي كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس وقتها. ولو عاد آدم سميث حياً الآن لتفاجأ كثيراً، حيث أصبحت "بريطانيا" من دون "عظمى" وتقلصت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس إلى بلد يرى الشمس بالكاد من جهة، وعودة إلى نظام قديم بائس قائم على الحمائية والإعانات. تحولت من بلد يجب أن يكون فيه تدخل الحكومة محدوداً إلى اقتصاد مخطط ترسم الحكومة فيه أدق التفاصيل عن طريق الإعانات التي تقدم لكل الاقطاعات وعلى كل المستويات. وسيجد أن كل ما بنته رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر ذهب أدراج الرياح.
في العام المالي الذي انتهى في مارس (آذار) 2023، قدمت الحكومة البريطانية إعانات لمستهلكي الكهرباء قيمتها 41.2 مليار جنيه استرليني أو ما يقارب 50 مليار دولار. لماذا قدمت هذه الإعانات؟ بسبب ارتفاع أسعار الغاز. لماذا ارتفعت أسعار الغاز؟ بسبب الخلاف الأوروبي-الروسي الناتج من الحرب الروسية ضد أوكرانيا. ولكن هناك أسباباً أخرى تتعلق بزيادة الاعتماد على الطاقة المتجددة التي نمت بشكل كبير، حتى بلغ الأمر أن الحكومة تدفع لمزارع الرياح كي تتوقف عن توليد الكهرباء.
مع توقف الرياح، ارتفعت أسعار الغاز والكهرباء بشكل كبير. من أين أتت هذه الأموال؟ قامت الحكومة باستدانة أغلبها. كيف ستسددها؟ أعلنت الحكومة البريطانية فرض ضرائب استثنائية على الأرباح الزائدة لشركات النفط والغاز العاملة في بحر الشمال حيث تتوقع أن تجمع 36 مليار دولار بنهاية عام 2028. هذا يعني أنه سيكون هناك عجز بحدود 4.5 مليار دولار إضافة إلى تكاليف الفائدة حتى ذلك الوقت. ولكن حصل ما لم يكن في حسبان السياسيين البريطانيين وتوقعه الاقتصاديون: توقفت شركات النفط عن الاستثمار في بحر الشمال وخفضت إنتاجها، مما زاد اعتماد بريطانيا على الواردات. هذا يعني أن الحكومة البريطانية لن تحصل على الـ 36 مليار دولار التي كانت تتوقعها.
ما سبق كانت إعانات مباشرة لمستهلكي الكهرباء. إلا أن الحكومة تقدم إعانات مباشرة لمحطات الكهرباء بحجة عدم حدوث نقص في الإمدادات. فبحسب تقرير لـ "بلومبيرغ"، ستدفع الحكومة إعانات مباشرة لمحطات الكهرباء قدرها 2.7 مليار جنيه استرليني لعامي 2027 و 2028، بعدها ستدفع 1.7 مليار جنية استرليني كل سنة لمدة 14 سنة. وتضمن الإعانات إنعاش محطات كهرباء مغلقة بعد إشهار إفلاسها.
وأنفقت الحكومة البريطانية مليارات الدولارات على محطات الكهرباء التي تستخدم الحطب والأخشاب والمخلفات الحيوية الصلبة. هذه الإعانات ستتوقف قانونياً في 2027، لهذا قدمت الحكومة مشروعاً جديداً لتقديم إعانات مليارية لهذه المحطات ابتداء من عام 2030 بحجة أن هذه المحطات تحتاج إلى تركيب لواقط لغاز ثاني أكسيد الكربون واحتجازه. وبما أن هناك ثغرة بين عامي 2027 و 2030 فهناك مشروع قانون لتمويل "جسر" إعانات للشركات في هذه الأعوام.
وتقدم الحكومة البريطانية إعانات للشركات المطورة لمزارع الرياح البحرية. إلا أن ارتفاع التكاليف جعل الشركات تعزف عن حضور المناقصات لمزارع الرياح البحرية، فأعلنت الحكومة البريطانية في نهاية العام الماضي رفع الإعانات بمقدار 66 في المئة حتى تقوم الشركات ببناء هذه المزارع. ورحبت شركات التصنيع والشركات المديرة لهذه المشاريع وأنصار البيئة بهذه الزيادة، إلا أن المشكلة الآن هي أن التكاليف أعلى من ذلك، لهذا قد لا تؤتي هذه الإعانات أكلها إلا إذا رفعت الحكومة الإعانات مرة أخرى.
في بداية هذا العام أقرت الحكومة البريطانية إعانات قدرها ملياري جنية استرليني لـ 11 مشروع لتوليد الكهرباء من الهيدروجين.
وفي بداية هذا الشهر وافقت الحكومة البريطانية على حزمة إعانات للمواطنين الذين يرغبون بتركيب ألواح شمسية على أسطح بيتهم. الإعانات تغطي التكاليف للمؤهلين للحصول على هذه الإعانات. المثير في الأمر أن أغلب الألواح الشمسية في بريطانيا تُستورد من الصين! بعبارة أخرى، هذه الإعانات في النهاية، هي دعم للاقتصاد الصيني. الأمور لا تتوقف هنا، فهناك برنامج دعم للحافلات وهذه الحافلات تُستورد من الصين أيضاً. وكانت مجلة "التايم" أثارت الموضوع في بداية هذا الشهر حيث أشارت إلى أن الإعانات الحكومية للحافلات تذهب للشركات الصينية.
في شهر فبراير (شباط) الماضي ذكرت صحيفة "الغارديان" أن الحكومة البريطانية منحت 8 ملايين جنيه استرليني لشركة تقوم بتطوير التاكسي الطائر.
أما في نهاية العام الماضي فقدمت الحكومة البريطانية 500 مليون جنيه استرليني إعانة لشركة "تاتا" للفولاذ الهندية لبناء مصنع بطاريات في بريطانيا. وهناك تمويل حكومي أيضاً للشركة لا تُعرف تفاصيله حتى الآن. وفي الوقت الذي تقدم فيه الحكومة البريطانية إعانات كبيرة لمشتري السيارات الكهربائية قدرها 2500 جنيه استرليني لكل سيارة، وإعفاء من الضرائب، طالب مجلس العموم البريطاني في شهر فبراير الماضي الحكومة بزيادة هذه الإعانات حتى تتمكن الفئات الفقيرة من شراء سيارات كهربائية، كما طالبوها ببناء شواحن في كل أنحاء الدولة على حساب الحكومة.
خلاصة القول... إن سياسات الانتقال الطاقي التي تأتي ضمن سياسات التغير المناخي ليست تضخمية فقط، ولكنها سياسات ستؤدي إلى إفلاس شركات ودول، بعد انفجار فقاعات الديون التي استُخدمت في تمويل هذه المشاريع.