الغرب الليبرالي.. والعودة للسياسة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
كثيراً ما كان يقال إن المعركة الانتخابية في الولايات المتحدة تحكمها معايير السياسة الداخلية وبصفة خاصة الوضع الاقتصادي، ومع ذلك نشاهد اليوم التراجع المذهل لشعبية الرئيس بايدن رغم نجاحاته الباهرة في الملفات الاقتصادية والصحية والاجتماعية، في الوقت الذي تتعزز فرص نجاح خصمه؛ الرئيس السابق دونالد ترامب مرشح الشعبوية الاحتجاجية الصاعدة.
وفي فرنسا، نجح الرئيس ماكرون في فرض إصلاحات مؤسسية جوهرية، كما استطاع دفع النمو الاقتصادي في بلاده، ومع ذلك ينظر إليه اليوم على أنه أقل رئيس شعبية في تاريخ فرنسا المعاصر، بينما تتزايد حظوظ مارين لبون زعيمة اليمين الراديكالي في الوصول للحكم خلال الانتخابات الرئاسية القادمة.
في كل الديمقراطيات الغربية، من هولندا إلى الأرجنتين، يتسارع صعود الأحزاب والتنظيمات الشعبوية الخارجة عن الإجماع الليبرالي، تحملها أصوات غاضبة ومحتجة غدت تسيطر على قاعدة انتخابية عريضة في الشارع. ولا يتعلق الأمر هنا بمجرد أحداث ظرفية، ولا بالانقسام التقليدي بين اليمين واليسار، بل بتحولات عميقة تطال نمط الممارسة السياسية من حيث الأطر النظرية والإجراءات العملية.
ولقد عالج الفيلسوف الألماني بيتر سلوتردايك هذه التحولات في كتابه &"الغضب والزمان&" من منظور التحليل النفسي المفهومي. واعتبر سلوتردايك أن ما نشهده اليوم هو انسحاب النوازع الايروسية (المتعلقة بالرغبة واللذة) لصالح النوازع التيموسية (المتعلقة بالغضب والثأر والانتقام). ومعلوم، منذ أفلاطون وسبينوزا، أن الفعل السياسي يتأرجح بين هذين النمطين من النوازع. في المجتمعات ما قبل الحديثة، كانت ممارسات الثأر الجماعي والعنف الطقوسي تسمح بالتنفيس عن هذه الأهواء الغضبية الاحتجاجية، كما أن التقليد اليهودي المسيحي وفّر غطاءً ميتافيزيقياً لمشاعر الرفض والتمرد، من خلال تحويل الغضب إلى صفة لاهوتية وبناء منظور ما بعد زمني للعدالة المطلقة.
ولقد ورثت الدولة الحديثة هذا الغطاء الميتافيزيقي، ونجحت المنظومة الرأسمالية الليبرالية في دفع النوازع الأيروسية من خلال الاقتصاد الذي أنيطت به مسؤولية توفير مقتضيات السعادة الإنسانية. كما أن الأيديولوجيا الماركسية وفرت إطاراً طوبائياً للاحتجاج الراديكالي من خلال فكرة الثورة الشاملة. ما نلمسه اليوم حسب سلوتردايك هو غياب أي أفق للاحتجاج من داخل النظم الليبرالية التي لم تعد توفر بدائل إيروسية لتحقيق رغبات الأفراد، بما يعني أن السياسة سيطر عليها &"وكلاء الغضب&"، بدلاً من &"رعاة الرغبة&"، وهو اتجاه متنامٍ تعبر عنه الاتجاهات الشعبوية من جهة وحركات التمرد الاجتماعي والعنف الراديكالي من جهة أخرى. ما نود أن نبينه هنا من خلال عرض أطروحة سلوتردايك هو أن المنحى الاحتجاجي الغاضب في الممارسة السياسية يفرض علينا تحديدَ آثاره على الأطروحة الليبرالية الكلاسيكية التي هي الأفق المرجعي للتجارب السياسية الحديثة.
وكما هو معروف، فقد انقسمت الليبرالية تقليدياً إلى اتجاهين: ليبرالية الحرية وليبرالية السعادة، وبينما تركز الأولى على الحقوق الفردية والاستقلالية الذاتية والمساواة في الفرص والاستحقاقات، تركز الثانية على العدالة الاجتماعية والإنصاف وتوفير الخدمات العمومية الضرورية لكل أفراد المجتمع. وعلى العموم، فقد ذهبت الاتجاهات الموسومة باليمينية إلى ليبرالية الحرية، في حين اتجه ما يعرف باليسار الديمقراطي إلى ليبرالية السعادة. بيد أن كلا التيارين يعانيان من مأزق مشترك، هو الانفصام المتزايد بين مطلبي الحرية والسعادة، أي بين الاقتصاد والسياسة، وبين الليبرالية ذاتها والديمقراطية. وكان كارل شميت قد نبّه منذ خمسينيات القرن الماضي إلى هشاشة النظم الليبرالية التي تبدو عاجزة عن بلورة أفق سياسي حقيقي، لكونها تنظر إلى الكيان الجماعي المنظم على شكل هيكل مصطنع تضبطه معايير قانونية أو اقتصادية، بينما تستند السياسية إلى الأهواء والمشاعر والنوازع النفسية، التي تبرز في ثنائية الصداقة والعداوة من حيث هي ثنائية مؤسسة للفعل السياسي نفسه. ما نلمسه اليوم بوضوح هو أن الدولة الليبرالية نجحت نجاحاً باهراً في توفير الحقوق السياسية والمدنية للأفراد، كما حققت للمجتمعات مستوى متقدماً من الرفاهية، إلا أنها أهملت الجوانب الإنسانية الجوهرية المتعلقة بالسياسة من نوازع الهوية والانتماء والشخصية الثقافية والرمزية.
وإذا كانت الأنساق الأيديولوجية وفرت للمجتمعات الحديثة بدائل ناجعة للمقومات الثقافية والشعورية للسياسة، فإن زوالها اليوم يضع هذه المجتمعات في مأزق حقيقي لا يمكن أن تسده المنظومة الاقتصادية التقنية المهيمنة. ومن هنا ندرك عودةَ السياسة في شكل تنظيمات وحركات احتجاجية راديكالية، على نحو يَصعب تفسيره بالأزمات السياسية أو الاقتصادية، بل هو مظهر لتطورات نوعية في الحقل السياسي نفسه.