عالم يزداد تصحراً
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حين نمتلك حلاً أو إجابة لمشكلة ما فإننا نكتب كتاباً فكرياً أو بحثاً، لكن عندما نعيش مشكلة ما أو عندما لا نعرف هذه المشكلة بوضوح فإننا نكتب رواية.
تأتي هذه الفكرة المنسوبة لأحد المفكرين الفرنسيين المعاصرين، هو ريجيس دوبريه، في إطار مناقشات عامة عن العلاقة بين أجناس الكتابة، وتقدّم جنس الرواية مثلاً، أمام تراجع مكانة أجناس أدبية أخرى، كالشعر، في الحياة الثقافية. وبصورة أكثر تحديداً يمكن القول إن الساحة الفكرية والثقافية في العالم لم تعد تقدّم الأسماء الكبرى الجامعة، الماسكة بأكثر من ناصية، كما كان عليه الحال في فرنسا مثلاً التي كانت مثل هذه الأسماء تغطي فضاءها الثقافي.
يصحّ ذلك مع جان بول سارتر وكلود ليفي شتراوس وميشيل فوكو ورولان بارت والاتجاهات الفلسفية الحديثة، وكان الحال على الجبهة الشعرية مشابهاً، حيث كانت أسماء مثل أراغون وبول إيلوار وفاليري وسواهم تشكل &"نجوماً&" شعرية. وحول هذه المسألة الأخيرة بالذات فإن دوبريه يرى أن الشعر قد غادر منذ زمن طويل مجال الحياة العامة.
إن فكر الناس حالياً خالٍ خلواً تاماً أو متصحر من الشعر، الذي أصبح ثقافياً جداً وعميقاً جداً، وباتت وسائل الإعلام اليوم هي النقيض الفعلي للشعر في مباشرتها واتساع انتشارها، بل هي التي ساعدت على تهميش الشعر، لأن وسائل الإعلام الحديثة تسعى لبيع سلعة ما أو التسويق، دعائياً، لمنتجٍ استهلاكي ما أو حتى فكرة معينة، بينما الشاعر ليس لديه ما يبيعه، لذلك فإنه لا يهمّ الإعلام الحديث، أو على الأقل لم يعد يهمه بالمقدار الذي كان له سابقاً.
وفي هذا السياق يمكن ملاحظة أن الشعر ما زال يحيا داخل المجتمعات التقليدية، بل إن دوبريه يقارن بين الحال في فرنسا وبريطانيا مثلاً من جهة، اللتين لم يعد بالوسع وصفهما بمجتمعات شعرية، والحال في إسبانيا حيث ما زال أهلها يمتلكون الحس الشعري، كسمة من سمات المجتمعات التي تتذوق طعم الكلمات ومناخها، لأنها تمتلك حرارة عاطفية وحسية كبيرة، وحساً غنائياً عالياً.
يدفعنا هذا للتأمل في الآثار المدمرة التي تتركها أدوات وأنماط الحضارة الحديثة على العالم الروحي للإنسان، فكلما ذهبت المجتمعات أبعد في تملك هذه الأدوات واتباع هذه الأنماط، انحسرت تلك الفضاءات الرحبة، التي تشكّل عالم الإنسان الروحي، وهو يذكرنا بما أشار إليه الباحث المصري الراحل جلال أمين في كتابه &"عصر الجماهير الغفيرة&"، الذي قال إن اتساع حجم السوق أدى إلى إنتاج ثقافة متوسطة المستوى تستجيب للقاسم المشترك الأعظم بين جمهور غفير من الناس، الذي هو في الغالب أكثر استجابة لأهواء الإنسان العادية.