الهند والخيار الجيوسياسي الثالث
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تشهد الهند في الفترة الممتدة بين شهري إبريل/ نيسان ومايو/ أيار المقبل انتخابات تشريعية مهمة، يرى المراقبون أنها ستكون بمثابة مناسبة لرئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي للحصول على ولاية ثالثة على التوالي، بعد أن سبق له أن فاز بأول عهدة له خلال سنة 2014، متفوقاً بذلك على كل خصومه، وفي مقدمتهم مرشح حزب المؤتمر الذي يرمز إلى التشكيلة السياسية القوية التي حكمت الهند لمدة 67 عاماً، ويرجع الاهتمام الدولي بحدث الانتخابات الهندية، إلى الوزن الجيوسياسي الكبير الذي بات يمثله هذا البلد بالنسبة لموازين القوى في العالم من منطلق أن تدحرج مواقفه بشكل كامل نحو الغرب بقيادة الولايات المتحدة أو نحو الشرق بقيادة روسيا والصين، ستكون له تأثيرات حاسمة في نتيجة الصراع بين الكتلتين.
ومن الواضح أن الذين يتحدثون عن فوز محتمل لحزب رئيس الوزراء مودي في الانتخابات التشريعية العامة، يستندون في توقعاتهم إلى نتائج الاقتراع في الانتخابات الجهوية التي جرت في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، والتي أكّدت الشعبية الكبيرة التي ما زال يحظى بها حزب &"بهاراتيا جاناتا&" الذي أصبح منذ سنة 2019 أكبر الأحزاب الهندية من حيث عدد المنتخبين في البرلمان وأكبر أحزاب العالم من حيث عدد المنخرطين. وقد أوضحت الانتخابات الجهوية أن المعارضة بقيادة حزب المؤتمر ما زالت غير قادرة على إحداث اختراق حقيقي في قدرة الحزب الحاكم على استقطاب جموع الناخبين، إذ لم يحسم حزب المؤتمر المعارض النتيجة لصالحه إلا في 3 أقاليم من بين 28 إقليماً ومحافظة من الاتحاد الهندي.
وتسعى الحكومة الهندية في المرحلة الراهنة إلى إقناع قطاع واسع من الشعب بأن بقاء حزب رئيس الوزراء مودي في السلطة هو بمنزلة ضمان لاستمرارية النمو الاقتصادي للهند التي تعوّل عليها الدول الغربية، لكي تتحوّل خلال السنوات المقبلة إلى مصنع جديد للعالم، من خلال الاستمرار في تطوير الصناعات التحويلية وشركات التقنية لتأهيلها لتكون قطباً بديلاً للصين، التي بات نموّها المطرد يقلق بشكل جدية العواصم الغربية، وتعمل حكومة مودي، إضافة إلى تركيزها على الجانب الاقتصادي، على تحسين الوضعية الاجتماعية للهنود، من خلال دفع المرأة إلى لعب دور أكثر تأثيراً في التنمية، وتقليص نسبة البطالة لدى الشباب، وتقديم مزيد من الدعم للمزارعين من أجل التحكم بشكل أفضل في أسعار المواد الغذائية.
ويمكن القول إن موقع الهند الذي يجعلها محاطة بدول مسلمة هي باكستان وبنغلاديش وماليزيا، وبدول ذات أغلبية بوذية هي تايلاند ميانمار وسيريلانكا، وبنيبال الهندوسية والصين الشيوعية، يدفعها -بالمجمل- إلى محاولة الحفاظ على طابعها العلماني الذي يضمن من حيث المبدأ، عدم تدخل الدولة في الممارسات الدينية للمجموعات والأفراد، على الرغم من وجود بعض التوترات الناجمة عن تصاعد النزعة القومية الهندوسية التي تجد تبريرها انطلاقاً من المعطيات التاريخية للبلاد؛ ويستمد هذا التوجه العلماني للدولة مشروعيته من الدستور؛ اعتماداً على عدة مواد، من بينها المادة 27 التي تمنع توجيه الأموال العامة لدعم الدين، والمادة 28 التي تفيد بأنه لن يكون هناك تقديم لأي تعاليم دينية في المؤسسات التعليمية المموّلة بشكل كامل من الميزانية العامة.
أما بالنسبة للسياسة الخارجية للهند، فيرى المراقبون أن حكومة مودي ستواصل مستقبلاً سياستها القائمة على ما بات يُعرف بالخيار الثالث، من خلال محاولتها الاستمرار في تعاملها الحذر مع الصين، وتقليص اعتمادها على المنتجات الصينية، والسعي من ثم إلى تجنب الدخول في مواجهة مباشرة معها، والتحالف مع البرازيل لإقناع مجموعة &"البريكس&" بضرورة الحفاظ على علاقات ودية مع الغرب. كما ستواصل نيودلهي العمل، في السياق نفسه، على تطوير علاقاتها الاقتصادية والتكنولوجية مع واشنطن؛ تجسيداً لرؤيتها المتعلقة بالانحياز المتعدّد من أجل خدمة المصالح العليا للدولة الهندية.
وتشير المعطيات الجيوسياسية المتوافرة لدى المتابعين للشأن الهندي، إلى أن العلاقات الهندية الروسية ستستمر في الانحسار خلال السنوات المقبلة، ليس فقط بسبب الحرب في أوكرانيا، ولكن لأن الهند باتت ترى أن موسكو لم تعد قادرة على تقديم مزايا مهمة لها، لا سيما في مجال الصناعات العسكرية، بعد أن أصبح المجهود الحربي في أوكرانيا يستنفذ القسم الأكبر من الإنتاج العسكري الروسي، الأمر الذي دفع الهند إلى شراء طائرات مقاتلة من فرنسا، وإلى العمل على تطوير صناعتها في مجال الدفاع الجوي، بعد أن تأخرت موسكو عن تسليمها دفعة جديدة من صواريخ &"إس 400&".
ونستطيع أن نضيف عطفاً على ما تقدم، أن قدرة الهند على التأثير في مسار العلاقات الدولية، وسعي قوى الشرق والغرب على كسب ودّها، لا يعتمد فقط على إمكاناتها الداخلية، فهي تملك على المستوى الخارجي جالية نشطة ومؤثرة في العديد من دول العالم، لا سيما في الولايات المتحدة التي يقدّم فيها العلماء والخبراء الهنود خدمات ذات قيمة عالية، لا سيما في التكنولوجيات الحديثة بوادي السيلكون، وبالتالي فإن هذه القدرة على التأثير المتزامن في صعد متعددة هو الذي يُسهم في جعل نيودلهي تمارس أدواراً نشطة على مستوى العديد من الملفات الدولية الشائكة.