عن التضامن العربي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بينما يبدو التطور العلمي مصدر تفاؤل للبشرية، وهو يساعد على زيادة التواصل بين الدول والشعوب؛ يعيش العالم بالمقابل زمناً قاسياً، تتكاثر فيه الأزمات السياسية والأمنية والمعيشية، وتشتد الصعوبات، ويزداد فيه التطرّف الذي وصل إلى الطبيعة والطقس أيضاً، في جنوحٍ واضح نحو تغييرات مناخية سريعة، فنرى تساقطات مطرية كثيفة ورياحاً عاتية أحياناً، وتبدلات غير معهودة في الحرارة، ما يُصيب مناطق متعددة من اليابسة بنكبات مؤذية.
وتبدو المقاربات المعتمدة حالياً في العلاقات الدولية، لا تحترم كثيراً المعايير الأخلاقية في التعامل بين الدول، ولا تلتزم بثوابت القانون الدولي الذي أقرته مؤسسات الأمم المتحدة، وتراجعت الدبلوماسية والرأفة إلى الحدود الدنيا، وانكفأت سِمة التسامح إلى الصفوف الخلفية، لصالح خشونة كنا اعتقدنا أنها تلاشت بعض الشيء. وهذه المعايير الجديدة لا تُبشّر بانبلاج فجرٍ مُشرق من التعاون، كان مُنتظراً لطي صفحة الحروب، وللخروج من الاصطفافات الجهوية أو القارية أو القومية أو العرقية أو الطبقية الحادة.
تفرض التحديات القاسية على الدول العربية إنتاج مقاربات جديدة تواجه فيها المخاطر المناخية والسياسية والاقتصادية والأمنية والقانونية المُحدقة، ذلك أن تجارب الانفتاح والتعاون في الماضي القريب؛ لم تعطِ الدفع التفاؤلي الذي كان منتظراً؛ بل على العكس من ذلك، فقد خيّبت بعض الآمال الموعودة، وقد نكون أمام عودة تكتيكية إلى المربع الأول. ولم تُبادل بعض القوى الكبرى بالمثل التعاملات العربية الصادقة معها، وأحياناً لم يلقَ التسامح العربي أي آذان صاغية في المحافل الدولية، حتى ولو على سبيل المجاملة. وكان آخر هذه المحطات في جلسة التصويت، التي جرت في مجلس الأمن الدولي على مشروع قرار يمنح عضوية كاملة لدولة فلسطين، وأجهضه الفيتو الأمريكي، على الرغم من حصول المقترح على 12 صوتاً، وامتناع دولتين عن التصويت من دون أن تعترضا عليه. والغريب أن الإدارة الأمريكية كانت قد صرّحت مراراً؛ بأن حل النزاع القائم في المنطقة لا يمكن أن يحصل إلا بإقامة الدولتين.
لم تحترم الإدارة الأمريكية الحد الأدنى من التوازن في تعاطيها مع الملف الفلسطيني، وهي لم تراعِ مشاعر العرب كافة، وغالبية من هؤلاء ينشدون الصداقة معها، وهم لا يخفون تقديرهم للشعب الأمريكي. وقد استكملت غالبية برلمانية أمريكية سياسة الانحياز من خلال التصويت على منح إسرائيل مساعدات عسكرية بقيمة 26 مليار دولار، وهو ما يشجع إسرائيل على عدوانها، وقد وصلت مأساة الفلسطينيين في قطاع غزة إلى حدود غير مقبولة، وحياة أكثر من مليوني فلسطيني مهددة بالكامل بسبب الحصار والتجويع واستخدام أحدث الأسلحة الفتاكة ضد المدنيين وضد المستشفيات وأفراد طواقم الإغاثة.
الاجتماع الأخير لمجلس وزراء الخارجية العرب الذي عقد في 6 مارس/آذار بمقر الجامعة العربية في القاهرة، حمل بعض المؤشرات التفاؤلية، وقد أكد البيان الذي صدر في أعقاب الدورة 161 للمجلس على أن التحرّك الفردي للدول العربية، لا يلغي أهمية التحرّك الجماعي لفرض احترام الإرادة العربية وووقف إطلاق النار في غزة، وإجبار المجتمع الدولي على إيجاد حل للنزاع ويعطي الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة. وقد ناقش الاجتماع ملفات عربية أخرى، منها ضرورة حلّ المسألة الليبية المعقدة، وتسوية النزاع في سوريا، وإيجاد أرضية مناسبة لتحقيق تضامن عربي مطلوب اليوم أكثر من أي وقت مضى.
يشكل التضامن العربي معبراً إلزامياً لتوفير حد أدنى من الأمن القومي العربي. وقد أثبتت التطورات المُتسارعة في المنطقة وعلى الساحة الدولية، أن الدور العربي مُستهدف، وهناك مَن يتعاطى مع الدول العربية كمساحة يمكن التحرّك فيها بما يتعارض مع مصلحة شعوبها، ووصل الأمر إلى حد اعتبار بعض الدول ساحة نفوذ لقوى كبرى، تفرض عليها سياستها وتقرر عن شعوبها بما لا يتناسب مع مصالحهم. والدول الكبرى تجاهلت واقعة الشراكة التي يرغب العرب بإرسائها من دون أن يكونوا مُهمشين في موقفهم وفي دورهم.
لقد تأكد أن العولمة التي روّجت لها جمعيات مدنية خاصة مدعومة من قوى دولية مؤثرة؛ غالبيتها تحمل رؤى ومشاريع يعتمدها مفكرون غربيون، أكثر مما هي مقاربات تلائم الإنسانية جمعاء. وفرض أنماط ثقافية خارجية على دول أبدت انفتاحاً على التواصل مع المعايير العالمية، لا يتلاءم مع منطلقات ميثاق الأمم المتحدة الذي أكد احترام خصوصيات الشعوب وتقاليدها وعلى مبدأ عدم التدخُل في الشؤون الداخلية للدول. والمجتمعات العربية مُهددة بأفكار دخيلة، لا تهدف إلى تطوير الحياة البشرية واعتماد التجارب الناجحة؛ بل هدفها تدمير المقاربات الحضارية القائمة، لصالح مقاربات جديدة، لا تحترم الخصائص البشرية.
على أهمية التجارب الخاصة في بعض الدول العربية؛ لكن ما يحصل في العالم وفي المحيط؛ يفرض اعتماد نموذج تضامني عربي موحد، يحمي الأمن القومي العربي بالحدود الدنيا، ويبدو أن هذا الأمن يحتاج إلى حماية جماعية في ظل الاضطراب السياسي والأمني الدولي الحالي.