الشيخ محمد صباح السالم.. وعتاب التاريخ
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في صيف عام 1962، كان المرحوم الشيخ صباح السالم يرحب بنا في منزله في السالمية كأول مجموعة للدبلوماسية الكويتية التي كان يرأسها الشيخ صباح السالم بترتيب وليمة عشاء تكريماً لهذه المجموعة التي انضمت إلى الوزارة، وشدني بتلقائيته، منطلقاً في ترحيبه وفق مساره الطبيعي، مرحباً وبشوشاً، وفوق ذلك صادقاً في ترحيباته، وشعرت بأنه مهموم بالكويت وشؤونها، مرتاحاً في انسجامه مع أسرته ومع مسؤولياته..
في يناير 1964، كنت مديراً لمكتب معالي الوزير الشيخ صباح الأحمد، ومن هذا الموقع انضممت إلى سفرات الشيخ صباح السالم الرسمية إلى إيران والعراق ومصر والولايات المتحدة، كنت أراقب هدوء الأمير الشيخ صباح السالم ومساره في المفاوضات، كان واضحاً في تعبيراته، وطبيعياً في مناقشاته.
توفي الشيخ صباح السالم في أول يناير 1977، وتتلاحق الأيام، وفجأة تتصل بي ابنته الشيخة حصة لتحضير كتاب عن والدها الشيخ صباح السالم، وأتقبل بانسجام باحثاً عن مكونات شخصيته، فأتوقف من بين الأوراق على رسالة مؤرخة في 19 يناير 1976، موجهة إلى ولده الغالي محمد الذي كان يدرس في أمريكا، ويزينها بالشعر المشهور:
&"العلم يرفع بيتاً لا عماد له.. والجهل يهدم بيت العز والشرف&"،
مركزاً في نصيحته على ضرورة استيعاب نبل المعاني، وفرحاً بتواجد ابنه يتعلم في جامعات راقية..
كان الشيخ صباح السالم تلقائياً في استقباله للمسؤوليات الكبيرة، لا يتوقف متردداً، واعياً لدور أبناء النظام ومواقعهم في طلائع الصفوف، لا يتراجع حول قضايا ضبابية المسار ولا يعبأ باحتمالات المطبات المؤذية، وسجل مسار الشيخ صباح السالم تحمل مسؤولياته واستبساله في كل المواقف.
وبوحي من روح الاستجابة التي لم تفارق والده، أيقنت بأن الدكتور الشيخ محمد صباح السالم، مشبع بالحيوية الإيجابية مثل تلك التي رافقت والده ومكنته ليقود الكويت من 1965 إلى 1977.
استبشرنا جميعاً بقبوله رئاسة الوزراء، وشعرت بارتياح لقيادته وباليقين في نجاحه، محصناً بفضيلة التلقائية والبساطة في السلوك والتواضع في النهج، معتمداً على التأهيل العلمي والخبرة في العمل الدبلوماسي، مستفيداً من ذخيرة السنوات المثمرة التي قضاها في واشنطن، والتي أهلته كوزير للخارجية لعقد من الزمن.
ورددنا بصوت مرتفع أن اختيار سمو الأمير للشيخ محمد كرئيس للوزراء تولدت من قناعة باللياقة النادرة التي وفرتها ثنائية العلم والخبرة، ليقود مجلس الوزراء في ظروف إقليمية مضطربة، ويتشابك مع الكويتيين في وحدة إنجازات وتطمينات وتفاؤلات مستقبلية، ومن دون مبالغة تسيدت الكويت الفرحة العارمة بأن سفينة مجلس الوزراء يقودها نوخذة متشبعاً بالخبرات، يحمل معه ثقة الشعب الكويتي به ومدركاً لما يتطلع إليه هذا الشعب.
وكنت أردد بأن الشيخ محمد لم يصل محمولاً بدلال من التاريخ، لم يجامله الزمن أو تنقله موجات حسن الحظ، ولذلك كنا مطمئنين بأن الشيخ محمد صباح السالم الذي شيد صداقات مع جميع طوائف الكويت، وتميز بالبساطة التي كانت الرفيق الدائم لوالده، وبالأدب الجم الذي ورثه من أسرته الكريمة وبصدق المعاشرة التي تلازمه في تنقلاته سيواصل حمل العبء مهما كانت أثقاله وأنه واع لمنطق الانتماء وواع لتبعات الموقع الذي يتولاه، وقادر على تجاوز تعقيداته، مرتكزاً على ثلاث ركائز: ثقة سمو الأمير، دعم كاسح من شعب الكويت سهل له الطريق بالمؤازرة، وثالثاً، بشاشة التاريخ التي رشحته راضية بكياسته وعازمة على إزالة المضايقات من طريقه.. وبهذه القناعة التي وفرت له الارتياح الشعبي وترجمة لشعوري بالبهجة التي استحضرتها موافقته على تولي الوزارة، نشرت مقالين في صحيفة القبس، فيهما إشارات عن سلم الأولويات التي تسعد شعب الكويت، وأهمها ملاحقة الفساد في السرقات وفي الجنسية أينما يتواجد، والانطلاق في المسار التنموي، وإبراز القدرة القيادية في الحوارات البرلمانية، وأهم من كل ذلك، أنه على علم بأن المسؤولية ليست نزهة تحمل له لطافة المعشر، وإنما كلها صعوبات، وفيها جدل برلماني لا يستوعب سطوة المنطق وقواعد التعقل، وإنما تكثر فيه توجهات للتصعيد وللتعقيد، وهو على علم بتموجاتها، كما كان متابعاً للصراعات السياسية في واشنطن، وملماً بتوجهات الحزبين، ومراقباً للمواجهات بين الأقليات وتضررها من آفة التمييز.
تمتع الشيخ محمد صباح السالم بدعم قوي من جميع الطوائف وبإجماع شعبي، يرى فيه الانتماء الصافي لتربة الكويت، فهو ابن الشعب المتواصل مع كل المواقع وكل المزاجات، بحاراً مع أهل الشرق، تاجراً مع أهل جبلة، استاذاً مع الأكاديميين، سياسياً متواجداً في كل التجمعات، محللاً مع أهل الصحافة، ومتحدثاً عن تقلبات العملات مع أهل الصنعة.
تجده مع كل الألوان زائراً في الدواوين، مردداً الزهريات عند العميري وفرقة إعيال الماص، ثم فجأة في الرياض مجدداً صداقات مع أمراء المملكة، لا سيما ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وأبناء الملك فيصل.. تجده بسيطاً ومتواضعاً في أسفاره وتنقلاته، يروي الشعر الصحراوي وزهريات أهل البحر، وينسى هارفرد مفضلاً رقصات البحارة..
ووسط هذه الأجواء التي رسمت الابتسامات على وجه الكويت كلها، بحرها وبرها وصحراءها، التي شعرنا فيها بأن التاريخ احتضن الكويت وشعبها بكل دلال، داهمت هذه الأفراح إشاعات عن اعتذار الشيخ محمد الصباح عن تولي المسؤولية التي أبهجتنا وأسعدتنا، فتسيدت الأجواء تعارضات في الأخبار بين النفي وبين تأكيد الحقيقة، التي تأكدت فتحولت البهجة إلى رجفة مستغربة، متسائلة عن المسببات التي أقنعت الشيخ محمد الصباح بتجاهل بشاشة التاريخ وإهماله للدلال الذي وفرته الحياة له، وأكثر من ذلك، مقللاً من دوره في تعظيم الطمأنينة التي استحضرتها تقبله لرئاسة الوزراء، مع عودة التساؤلات من المجتمع الكويتي عن المسببات التي أدت إلى اتخاذ قرار الانسحاب في ظروف تستدعي صلابة المجتمع ووحدته وتجهيز استعداداته لتأمين الاستقرار.
ليس في وسعي تناول المسببات التي أدت إلى التبدلات، وإنما أستعين بنهج المرحوم الشيخ صباح السالم الذي لا تغثه الإشاعات، وفياً لنداء الواجب، مجسداً قناعاته بأن موقع أبناء النظام في صدارة الاستجابة لنداء الوطن..
كان الشيخ صباح السالم استثنائياً في تعاليه عن الصغائر مؤمناً بأن لكل عقدة هناك طريقة لحلها، وأن أشواك السياسة لا تدوم، وعلاجها المواجهة من دون ضجر، والصبر بلا إرهاق، والإصرار على النجاح، ومهما كانت العقبات، فواقعة الاعتذار دخلت التاريخ ولن تزول، وسيبقى عتاب التاريخ محفوراً ومنقوشاً ليس في مسيرة الكويت فقط، وإنما في مسار الحياة الذي اختاره الشيخ محمد الصباح، وستلاحقه تساؤلات التاريخ بعد الدلال الذي تكاثر عليه.
تأسفت كثيراً لأنني مقتنع جداً بقدرته على مقاومة إغراءات المشيخة، محصناً بالعفة الأكاديمية، لا يذعن لابتسامات الزمن، لم تسكن فيه غريزة الافتتان بالسلطة، ورغم كل هذه المواصفات النادرة، يظل تعامله مع نداء التاريخ سلبياً وخشناً، مع استحضار أعذار ليست بمستوى صوت الواجب الذي يدعوه للقبول في أجواء ليست مريحة داخلياً ومضطربة إقليمياً، ومتحدية للمنهجية المتزنة التي هي عقيدة الكويت، ومتجهة للمزيد من الفوضوية الإقليمية.
ابتسامات التاريخ نادراً ما تتكرر، وسيواصل الشيخ محمد صباح السالم حياته، لكنه فاقد لرضا التاريخ الذي سيلاحقه دائماً بالعتاب.