جريدة الجرائد

حصاد الجهود

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

اللائق بالعاقل أن يكون ذا جدٍّ وجلدٍ في غرس كل ما ينفعه، وأن يحرص على الاستقامة في أفعاله وتصرفاته ومعاملاته مع الناس، فإذا بذل الجهد في ذلك حصد من ثمراته المحسوسة والمعنوية ما كُتب له من ذلك، وهذا الحصاد لا يلزم أن تتكامل أجزاؤه على يدي الغارس، وتحت نظره، بل قد يتأخر أغلبه بعد موته أزمنةً عديدةً، فكم شخصيةٍ زرعت الخير ومضت قبل تثمير جهودها، ثم جاء الوقت المكتوب فيه لسعيها أن ينال من الرواج وشكر الناس ما يليق به، فحصدت به لسانَ صدقٍ، وذكراً حسناً، وحسناتٍ جاريةً، وفي المقابل يقبح بالعاقل أن يتوانى في التسبب بما فيه صلاح آخرته ودنياه، وأن يقصِّر في فعل ما يُحمدُ به في دينه ودنياه وعلاقته بالآخرين، وإذا ابتلي بذلك فحقيقٌ به أن يستشعر تأنيب الضمير، وأن يعزم على الإقلاع عن التقصير، وأن يكون صادقاً مع نفسه في الاقتناع بأنه مقصرٌ، وإذا قصّر وتذاكى على نفسه وعلى الناس، فادعى ما ليس له، وأراد أن يجني ثمراتٍ لم يبذر لها بذرةً فقد بالغ في السلبية المقيتة، ولي مع حصاد الجهود وقفات:

الأولى: ما كان من الجهد والعمل مما يُتقرب به إلى الله تعالى، فواجبٌ على فاعله أن لا يقصد وراء قيامه به مآرب دنيويةً، فالأعمال بالنيات، والله تعالى أغنى الشركاء عن الشرك، وما شرعه لعباده من العبادات لا يُقبلُ ما لم ينبعْ من إخلاصٍ له ومتابعةٍ لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولا معارضة بين هذا وبين سعادة المسلم في قرارة نفسه بما يظهر من توقير الناس له بسبب حسن سلوكه، واستقامة أمره، ونصحه لأئمة المسلمين وعامتهم، وكونه باذلاً للخير كافّاً للشر، فربما كان ذلك عاجل بشرى بمحبة الله له، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: &"إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ القَبُولُ فِي الأَرْضِ&" متفق عليه، فظهور آثار الهداية الحميدة على العبد من رحمة الله به وفضله عليه، فهذا من الفرح بنعمة الله تعالى، وهو مشروعٌ إذا خلا من العُجب والبطر ونسبة الفضل إلى النفس، وقد قال تعالى: &"قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون&"، بل ربما كان من الملائم إخبار بعض الناس بالعمل المثمر، والنتيجة النافعة التي ترتبت عليه؛ ليقتدوا بذلك، إذا فعل ذلك متحدثاً بلسان الشكر لله تعالى، والاعتراف بنعمته، فيكون ذلك داخلاً في قوله تعالى: &"وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ&"، فمما فسر به بعض السلف الآية قوله: &"هُوَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَعْمَلُهُ الرَّجُلُ فَيُحَدِّثُ بِهِ إِخْوَانَهُ مِنْ أَهْلِ ثِقَاتِهِ لِيَسْتَنَّ بِهِ وَيَعْمَلَ مِثْلَهُ&".

الثانية: حصاد الخير لا يتأتّى إلا ببذره، ومن رام غير هذا فما هو إلا مجردُ طمّاعٍ مغرورٍ، فالقاعد لا يجني الثمرات، وزارع الشر لا يحصد الخير، ومن أمثال العرب المأثورة: (إِنَّك لَا تجني من الشوك الْعِنَب)، فمن أراد الولوج إلى قلوب الناس، فليستعن بمفتاحها وهو حسن المعاملة، فمن كان هشوشاً بشوش الوجه، متلقياً الناس ببشره وطلاقة وجهه، كان خليقاً بأن يُتلقَّى بما أحبَّ من التقدير والاحترام، ومن كان سيئ العشرة عبوساً متجهم الوجه فحقيقٌ بأن ينفر الناس من مجرد ملاقاته، وأن يستثقلوه وينقبضوا عنه، ولو اقترب منه من انطلى عليه أمره، ثم انكشفت له حقيقته لحاول التخلص من صحبته بكل ما أمكنه، ومن كان ألوفاً محافظاً على الصداقات والعلاقات بمختلف أنواعها، حريصاً على استدامة الألفة باذلاً كل جهوده في ترميم تصدعاتها إن حصلت، فهو حقيقٌ بأن يألفه أصحابه والمتعاملون معه، وأن يحرصوا على استبقاء وُدِّهِ مهما كلف ذلك من عناءٍ وتحملٍ، وقد قال بعض الأدباء في مثل هذا: &"اقنع بِمن عنْدك يقنع بك من عنْدك&".

الثالثة: هناك خصلةٌ عظيمةٌ إذا حَمَلَ الإنسان عليها نفسه أنصف الناس، واستحق أن يُنصفوه، فحَصَدَ بذلك ثمرةً عظيمةً، وهي أن ينظر فيما يحب أن يناله من المعاملة فيبذله للناس، وقد رغَّب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخصلة حتى جعلها من أسباب دخول الجنة، والنجاة من النار، مقرونةٌ في ذلك بالإيمان بالله تعالى، ففي حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ) أخرجه مسلم، وهذه قاعدةٌ عامةٌ في الإنصاف، وإقامة الميزان العادل في المعاملة مع الخلق.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف