الفلسفة الإسلامية في الأكاديمية الفرنسية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
انتخب المستشرق الفرنسي البارز كرستيان جامبيه مؤخراً في المجمع العريق &"الأكاديمية الفرنسية&"، تتويجاً لجهود علمية بارزة خصص جُلها للفلسفة الإسلامية. أغلب دراسات جامبيه تناولت فلاسفة الإشراق الكبار، وهم ابن سينا والسهروردي والملا صدر الدين الشيرازي، جرياً على نهج أستاذه المعروف هنري كوربان. وكما أن كوربان أصدر في الستينيات كتابه الأساسي في تاريخ الفلسفة الإسلامية، فقد ألَّف جامبيه قبل سنوات كتاباً في الموضوع نفسه، وإن اختلف عنه في المقاربة والمنهج. وعلى عكس جل مؤرخي الفلسفة الإسلامية من الغربيين والعرب أيضاً الذين حصروا نصوصَ هذه الفلسفة في أعمال الكندي والفارابي وابن سينا وابن طفيل وابن رشد، مع القول بأن التقليد الفلسفي انتهى في التاريخ الإسلامي بعد نهاية القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، فقد ذهب جامبيه إلى أن الكتابة الفلسفية الإسلامية أوسع بكثير من هذه النصوص المرجعية، وقد استمرت عهوداً طويلة بعد اللحظة الرشدية، ويكفي دليلا على ذلك نسق صدر الدين الشيرازي المعاصر لديكارت وسبينوزا في الحقبة الحديثة.
وفي حين أن مؤرخي الفلسفة الإسلامية يهتمون على العادة بالمحور الأنطولوجي الموروث عن العصر اليوناني (نظرية الوجود ومسلك الميتافيزيقا)، نرى أن جامبيه يعتقد أن مفتاح التفكير الفلسفي في الإسلام هو تأويلية الذات من خلال النظر العقلي المفتوح في النص المنزل، بحسب محورية المعاد وما بعد الموت وما يترتب على هذا المنحى النظري من أبعاد روحية وأخلاقية بخصوص علاقة النفس بالجسد ونمط تدبير الرغبات والأهواء والنوازع. ومع أن فلاسفة الإسلام اهتموا كثيراً بالمنطق ونظرية العلم، إلا أنهم اعتبروا أن السؤال الميتافيزيقي مجرد مدخل للفلسفة الحقيقية التي هي التأمل في الذات وصولا إلى أخلاقيات الترقي والسمو التي تؤسس لنظرة كثيفة وقوية للحرية، وإن كانت مخالفة لدلالة هذه المقولة في السياق الغربي الحديث، كما أنها تكرس نمطاً من التجريبية الروحية التي تصل مداها في الأدبيات الصوفية والعرفانية. لقد عرف أفلاطون الفلسفةَ في محاورة &"الفيدون&" بأنها تهدف إلى أن &"تعلِّمنا كيف نموت&". وإذا كان فلاسفة الإسلام قد تبنَّوا هذه المقولة فإنهم أعطوها دلالةً مغايرة، تتناسب مع محورية المعاد والآخرة في نسقهم الأخلاقي والروحي.
وهكذا يرى جامبيه أن ما يميز الفلاسفة عن الفقهاء ليس نمط الاهتمام بالنص، بل اعتقادهم أن النشاط العقلي يمارس بحرية وإبداع ضمن تأويلية النص التي هي الوجه الآخر للوعي بالذات. وفي هذه التأويلية الروحية يمارس العقلُ قوتَه الإدراكية والبرهانية، وفق شروط ومحددات معرفية معقدة وطويلة، بحيث يكون الوصول للحقيقة مضنياً وصعباً، وإن كان جل البشر عاجزين عن اختراق الوهم والخيال. إن ميزة أطروحة جامبيه تكمن في أنه تجنَّب الموقفين السائدين في الدراسات الاستشراقية، وهما: إما النظر إلى الفلسفة الإسلامية بصفتها لاهوتاً ملتبساً، أو باعتبارها مجرد نصوص يونانية مكتوبة بحروف عربية. وهكذا يفرق جامبيه بين علم الكلام الذي هو علم جدلي في أمور العقيدة، وإن كانت له جوانبه الفلسفية العميقة، وبين الفلسفة الإسلامية التي تشكلت في تواصل ثري مع السردية اليونانية وإن اختلفت في رؤيتها ومسلكها عن الموروث الإغريقي لكونها تصدر عن إشكالات إسلامية محضة تتمايز كلياً عن الفلسفات اليونانية.
بيد أن جامبيه يبين أن الفلسفة الإسلامية الوسيطة أسست للتقليدين الكبيرين في الفلسفة الحديثة، وهما: أنطولوجيا الشيء (بدل سؤال الوجود الأرسطي) بما هو جلي في نقدية كانط التي نجد جذورَها لدى ديكارت ولايبنتز، وتأويلية الذات التي هي محور الفلسفة الحديثة والمعاصرة في الغرب. ليس من همنا عرض أعمال جامبيه، وهي هامة ومتشعبة، وحسبنا توجيه النظر إليها لكونها ما تزال إلى حد بعيد مجهولةً في الساحة الفكرية العربية.
ولعل سبب هذا الإهمال هو شيوع النظرية التي دافع عنها المرحوم محمد عابد الجابري بخصوص ما سماه غنوصية ابن سينا وفلسفة الإشراق من بعده والتي وسمها بالعرفانية غير العقلانية. إن هذه الرؤية تنجرُّ عنها ضرورةُ نفي الجانب الأساسي في الفلسفة الإسلامية الذي ركز عليه جامبيه كامل اهتمامه، وهو التأويلية الروحية والعرفانية التي اعتبرها ذروةَ العقل الفلسفي في الإسلام، بدل التصورات السياسية والأيديولوجية التي شغلت راهناً حركات التطرف الديني. ما يبينه جامبيه هو أن ابن سينا الذي قدم أهم صياغة فلسفية في العصور الوسطى لميتافيزيقا أرسطو، أدرك أن الحقيقة بمفهومها المطلق تُنال بالتجربة في بعديها الحسي والروحي، أما العقل المنفصل عن الذات والجسد فلا يتجاوز حدود المنطق الصوري المجرد، وهذه الرؤية هي جوهر الموقف الفلسفي لمفكري الإسلام الأقدمين.