رسالة لافتة في مخطوط صغير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يصحّ وصف المستشرق الروسي، إغناطيوس كراتشكوفسكي (1883- 1951)، بالمستعرب، لمقدار ما كان عليه من شغف باللغة العربية وآدابها، ودأبه في التنقيب عن القديم من المخطوطات العربية، واستخلاص ما فيها من جواهر، لم يلتفت إليها حتى العرب أنفسهم، ورثة الكتّاب الذين وضعوا تلك المخطوطات.
في كتابه &"المخطوطات العربية&" الذي عربّه الأكاديمي المصري د. محمد منير مرسي، مقال كتبه عن مخطوط وقع بين يديه، قبل ثلاثين عاماً من كتابته لذلك المقال، نُسخ، أي المخطوط، في القرن السادس عشر، يحوي مجموعة مقالات، وهو كما وصفه كراتشكوفسكي: &"كتاب صغير الحجم، مستطيل، لكنه ليس عريضاً، وهو يشبه في شكله مجلداً للصور، وكان منسوخاً في مصر وبشكلٍ جميل وخطٍ واضح نظيف&"، وبدا لكراتشكوفسكي أن ناسخ هذا المخطوط كان يعرف علم اللغة جيداً، والناسخ، كما نعلم، ليس هو المؤلف نفسه، الذي كان الخطيب التبريزي (1185 &- 1248).
في نهاية المخطوط مقتطفات استخلصت من مقالات ورسالات التبريزي النحوية، قرأها كراتشكوفسكي بسرعة، و&"بدون اهتمام كبير&"، لأنه يعرف أن مؤلفها رجل محبّ للعمل جداً &"لكنه عادي نسبياً&"، وساعتها خطرت على باله حكاية تداولها الناس عن التبريزي الذي عاش في بغداد &"كأستاذ في المدرسة النظامية المجيدة&"، وفحوى الحكاية أن التبريزي، وهو شاب، حمل على ظهره من تبريز إلى بلاد الشام مجلداً ضخماً لكي يدرسه عند شاعر وعالم مشهور في المعرّة، بالقرب من حلب، لم يكن سوى أبي العلاء المعري، رهين المحبسين.
بدا مظهر المعجم الذي حمله التبريزي على ظهره قاطعاً كل تلك المسافة &"كأنما قد أصابه البلل بالماء&"، نظراً لطول الفترة التي قضاها هذا المعجم محمولاً، &"فأصابه العرق الذي نحته ظهر التبريزي&". وفي غمرة تذكّر كراتشكوفسكي لتلك الحكاية، فيما المخطوط الذي أتينا على ذكره ما زال بين يديه، وقعت عيناه على الرسالة الأخيرة فيه، فلما قرأها شعر بأن طريقة كاتبها لا تشبه ما وصفه &"الطريقة المدرسية الجافة&" للتبريزي، فوجد فيها سخرية وتهكماً، مضمرين، من رجل مهمّ كُتبت إليه، لكنها سخرية مبطنة، &"بكلمات بلاغية ومغلفة بعبارات الاستصغار الذاتي الخارجي&"، بطريقة قد لا تجعل الرجل المهمّ الذي أرسلت إليه يفهمها في حال قرأها.
هنا أدرك كراتشكوفسكي أن تلك الرسالة الواردة في مخطوط التبريزي، والتي نسبت إلى هذا الأخير ليست من وضعه، وعندما دقق الباحث النظر والاهتمام في الرسالة وجد فيها بعض الدلائل الكافية، لأن يؤمن بأن ما أمامه، ليست نبذة من رسالة التبريزي، بل رسالة كتبها الضرير الزاهد القابع في المعرّة، ليس بعيداً عن حلب، قام التبريزي بحفظها، تماماً كما عُني بحفظ المعجم على ظهره.