قمّة المنامة بين التّمنيات والمفارقات: لا إرادة عربيّة للمواجهة مع إسرائيل ولا استعجال للتّطبيع معها بلا مقابل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
لن يتم الاتفاق على عقد "مؤتمر دولي للسلام" في الشرق الأوسط، كما طرح ملك البحرين في القمة العربية الـ33 في المنامة، ولن تُلبى الدعوة العربية إلى نشر قوات حفظ سلام دولية تابعة للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية تعمل على حماية المدنيين الفلسطينيين إلى حين تنفيذ "حل الدولتين".
لن توافق إسرائيل على قيام الدولة الفلسطينية، ليس فقط بسبب تعنت رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بل لأن الشعب الإسرائيلي كشف رفضه للفكرة مهما لاقت من الإجماع العالمي. لن تتصالح الفصائل الفلسطينية ولن يقبل "محور المقاومة الفلسطينية" بمنظمة التحرير ولا بإمساكها بالسلطة مهما بذلت الصين من جهود. لن تتوقف حرب غزة ما دامت الولايات المتحدة تفشل بالضغط الجدّي على إسرائيل التي تستهتر قياداتها بالرئيس الأميركي وبالرأي العام العالمي، وما دامت قطر وتركيا ومصر تفشل في إقناع قيادات حركة "حماس" بالخروج من غزة فيما تتملص هذه الدول من استضافة "حماس" وقياداتها وترمي العبء على الأردن ولبنان. حرب الاستنزاف قد تطول والخاسر هو فلسطين وإسرائيل معاً، بميدالية الغباء الاستراتيجي لنتنياهو و"حماس".
لنبدأ بسابقة ومفاجأة تمثلت بهجوم الرئيس الفلسطيني محمود عباس في خطابه أمام القمة العربية في المنامة على "حماس" واتهامها بـ"توفير ذرائع" لإسرائيل لتهاجم قطاع غزة. قال إن "العملية العسكرية التي نفذتها "حماس" بقرار منفرد في ذلك اليوم، في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وفّرت لإسرائيل المزيد من الذرائع والمبررات كي تهاجم قطاع غزة وتمعن فيه قتلاً وتدميراً وتهجيراً". قال أيضاً أمام القادة العرب في القمة إنه تجب مطالبة الولايات المتحدة بـ"التوقف عن سياسة ازدواجية المعايير"، وبأن "تضغط على دولة الاحتلال للإفراج عن أموالنا المحجوزة".
"حماس" أعربت عن أسفها لما جاء في كلمة عباس "حول عملية طوفان الأقصى البطولية، ومسار المصالحة الداخلية"، معتبرة في بيان لها أن العملية شكلت "الحلقة الأهم في نضال شعبنا الفلسطيني... لتعيد وضع قضيتنا الفلسطينية من جديد على رأس سلّم الأولويات، وتحقق المكاسب الاستراتيجية، ما يسوء وجه هذا الكيان، ويقربنا أكثر من الحرية وتقرير المصير".
المكاسب الاستراتيجية التي تتحدث عنها "حماس" ليست سوى في مخيّلة قيادتها، لأن واقع غزة اليوم هو الدمار التام، وعودة الاحتلال الإسرائيلي الذي سيبقى احتلالاً دائماً لجزء مهم من شاطئ غزة، والتهجير القسري الذي بات واقعاً لا يمكن لـ"حماس" أو غيرها التظاهر بأنه عابر. المكاسب الاستراتيجية لعملية "طوفان الأقصى" ليست سوى هذيان استراتيجي لقادة "حماس" الذين يطالبون بإنقاذهم من الورطة.
التباهي بأن عملية "طوفان الأقصى" سوّأت وجه إسرائيل قد يستحق التصفيق الساخر، لأن هذا "الإنجاز" كلّف أكثر من مئة ألف ضحية فلسطينية بريئة وشرّد الأطفال وسبّب مجاعة لا سابقة لها. وجه إسرائيل القبيح ظهر بوضوح أمام العالم الذي وقف مستهجناً كيف كان ظن أن الإسرائيليين هم الضحية فيما الفلسطينيون هم ضحية الاحتلال والعدوان الإسرائيلي. لكن ذاكرة الناس قصيرة وعواطفهم عابرة، ولا يبقى سوى الأسى والبؤس للفلسطينيين الأبرياء ضحايا همجية القيادة وعنجهيتها في إسرائيل وفي "حماس" والفصائل التي نسّقت معها في 7 تشرين الأول. ما أنجزته القيادتان في إسرائيل و"حماس" هو نسف "حل الدولتين" وتأجيل قيام الدولة الفلسطينية إلى أجلٍ غير مسمّى.
الرئيس الفلسطيني كان جريئاً في قمة البحرين بوصفه الأمور كما هي عليه، وهو غامر مغامرة خطيرة. إنه يستحق الدعم الجدّي والملموس من الدول العربية بصورة خاصة، ليس فقط من خلال التأكيد مكرراً أن السلطة الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، على أهمية هذا التكرار.
فالمهم بصورة طارئة هو تلبية ما دعا إليه عباس عندما قال إن الحكومة الفلسطينية لم تتلق الدعم المالي الذي كانت تتوقعه من الشركاء الدوليين والإقليميين، وأنه "أصبح الوقت ملحاً لتفعيل شبكة الأمان العربية، لتعزيز صمود شعبنا، ولتمكين الحكومة من القيام بواجباتها". واضح أن على عباس وحكومته وبوتقته إثبات وقف الفساد في صفوفها والعمل الدؤوب على تشكيل حكومة تكنوقراطية جديّة بمستوى الحدث الآن، وإلا لن يلاقي نداؤه التعاطف ولا الأموال.
العاهل الأردني الملك عبد الله شدّد على ضرورة دعم السلطة الفلسطينية وضرورة حشد الجهود الدولية وراء عدم الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة. فهو يدرك أن الخطر الذي يحدق بالأردن ليس آتياً فقط من إسرائيل بل أيضاً من الفصائل الفلسطينية التي توفر الذرائع لإسرائيل لتحقيق حلم الأردن كوطن بديل للفلسطينيين، فيما تحرّض الفلسطينيين في الأردن ضد الملك وضد الهاشمية.
ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بعث برسائل واضحة لكل من إسرائيل وفلسطين والأسرة الدولية. تحدّث بلغة إدانة "العدوان الغاشم" لإسرائيل على "الأشقاء الفلسطينيين"، مؤكداً أن السعودية جديّة في وضع حل الدولتين في صدارة شروطها لإسرائيل إذا أرادت التطبيع مع دول المنطقة. تحدّث بلغة الضغط الدولي والعمل المشترك مع المجتمع الدولي لوقف "عدوان قوات الاحتلال". أعاد طرح المبادرة العربية للسلام لقمة بيروت 2002 وفصّل الموقف السعودي الداعم لحق الشعب الفلسطيني بـ"إقامة دولته المستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية"، بعمل دولي يكفل تحقيق هذا الهدف. رحب بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخير الذي اعتبر أن دولة فلسطين مؤهلة لعضوية كاملة في الأمم المتحدة، ودعا الدول إلى "الاعتراف الثنائي" بهذا التأهيل.
هذه رسائل سعودية إلى إسرائيل بالدرجة الأولى لتقول لها: هي ذي شروط التطبيع التي تصر على معادلة الأرض مقابل السلام وقيام الدولة الفلسطينية. رسالة واضحة بأن لا مساومة على شروط الرياض ولا هرولة إلى التطبيع في ظل استمرار العدوان.
بكلام آخر، وضعت السعودية علاقتها المستقبلية مع إسرائيل على الرف في انتظار خطوات إسرائيلية جديّة نحو فلسطين. هذا لافت لأن الرياض حازمة نحو إسرائيل ومرتاحة بصورة منفصلة إلى علاقتها مع الولايات المتحدة عبر الاتفاق الأمني المستقل عن العلاقة الثلاثية الأميركية - السعودية - الإسرائيلية. الرياض ليست مستعجلة.
القاهرة أبدت استعجالاً عبر كلمة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي التي أبرزت المخاوف المصرية من التهجير القسري للفلسطينيين ومن اندلاع الفوضى في ظل تدهور العلاقة المصرية - الإسرائيلية. ليس هناك ما يهدد بانهيار اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، فهي بأمان. لكن هناك، بحسب السيسي، "ما تفرضه هذه اللحظة الفارقة على جميع الأطراف المعنية"، وهو "الاختيار بين مسارين: مسار السلام والاستقرار والأمل، أو مسار الفوضى والدمار الذي يدفع إليه التصعيد العسكري المتواصل في قطاع غزة". هذا كلام خطير للرئيس المصري لأنه يتحدّث بلغة الفوضى والخوف من الفوضى.
الغائب عن القمة العربية في المنامة كان "حماس" وتلك البطولة التي تزعمها في عملية "طوفان الأقصى" بمكاسبها الاستراتيجية المزعومة. قمة المنامة تعالت على المزايدات لكن رسالتها الهادئة كانت واضحة وعنوانها: عدوان إسرائيل على الشعب الفلسطيني غاشم وهمجي، بالتأكيد. لكن ما فعلته "حماس" في 7 تشرين الأول هو أيضاً افتراء على الشعب الفلسطيني، لأن ما قدمته "حماس" له ليس سوى الدمار والتهجير والموت والمجاعة وبدعة التأثير في الرأي العام العالمي. وللتأكيد، إن الرأي العام العربي منقسم بين شامت بإسرائيل وغاضب من "حماس" ويعتبرهما شريكين في 7 تشرين الأول وما تلاه.
العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة شدّد في كلمة افتتاح القمة على أن "خيار السلام في المنطقة استراتيجي لا غنى عنه لتعزيز الاستقرار في المنطقة"، وأكد أن منظمة التحرير الفلسطينية تظل هي الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. دعوته إلى عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط تنطلق من الأمل بنقلة من الحرب إلى السلام بزخم دولي. لكنها تبقى دعوة أمل وتمن وليست طرحاً متماسكاً بخريطة طريق مدروسة.
فلا الولايات المتحدة جاهزة لمؤتمر دولي لأنها تفضل الاستمرار في رعايتها لإنهاء حرب غزة وإلحاق الهزيمة بحركة "حماس" قبل العمل على اليوم التالي والتحرك نحو تلك الصفقة الكبرى التي كانت تحلم بها إدارة الرئيس جو بايدن. ولا واشنطن جاهزة للجلوس مع موسكو إلى طاولة صنع السلام في الشرق الأوسط فيما العداء الأميركي والأوروبي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لن ينحسر ما دامت حرب أوكرانيا مستمرة. وهكذا، أقله لهذين السببين، لن يُعقَد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط في المستقبل القريب. لكن المنامة ستستمر خلال رئاستها القمة العربية بالدفع نحو هدف عقد المؤتمر بجهود دبلوماسية.
أما مقترح القمة العربية نشر قوات دولية في الأراضي الفلسطينية إلى حين تحقيق حل الدولتين، فإن الفكرة قُتِلت في مهدها عندما اعتبرت الولايات المتحدة أن ذلك المقترح يمكن أن يضرّ بجهود إسرائيل لهزيمة "حماس". فهذه أولوية أميركية. بعد هزيمة "حماس"، قد تكون واشنطن جاهزة للبحث بنشر قوات دولية. أما الآن، فإن انشغالها يصب في كيفية إنهاء حرب غزة من دون اجتياحٍ إسرائيلي لرفح يتسبب بكارثة إنسانية لا مجال لتجنبها، وكيفية إلحاق الهزيمة بـ"حماس" وإبعادها عن غزة.
إدارة بايدن تريد استمرار شراكتها مع الدول العربية مثل السعودية وقطر ومصر، كما مع تركيا، لإيجاد وسيلة لإبلاغ "حماس" أنها انتهت، وهكذا تتوقف الحرب. الأرجح أن "حماس" ليست جاهزة لوداع غزة ما دامت قيادتها تعتقد أن حرب استنزاف مع إسرائيل في غزة قد تكون في مصلحتها لأن الحركة ضالعة في حرب الشوارع والأنفاق. حرب كهذه ستكون مفتوحة ومكلفة للطرفين، لكن الذي سيدفع ثمن عدم انتهاء حرب غزة هو بالتأكيد الشعب الفلسطيني.
كثير صدر عن قمة المنامة وهو لافت بطبيعته من الأمن العربي والأمن العالمي عبر الملاحة، إلى مخاطبة إيران عبر القمة العربية.
أما الأبرز في ما صدر عن قمة المنامة فهو غياب الإرادة العربية للمواجهة مع إسرائيل وانحسار الاستعداد العربي للتطبيع معها بلا مقابل.