برلمانيو أوروبا... "النظافة من الإيمان"!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في إحدى ليالي بروكسل الصقيعية، في كانون الأول (ديسمبر) 2020، قبضت الشرطة على 25 رجلاً في أوضاع خادشة للحياء في شقة بالمدينة التي كانت قوانين إغلاق "كوفيد" لا تزال سارية فيها. حاول أحدهم الفرار عبر أقنية الصرف الصحي من دون جدوى، فضبطته الشرطة متلبساً وبحوزته كمية من المخدرات. ولما أبرز جواز سفره الدبلوماسي لاحقاً، تبين أنه كان يوزيف شايير، القيادي البارز في حزب "فيديز" المجري الحاكم، وأحد كبار نوابه في البرلمان الأوروبي. كانت تلك الليلة آخر عهده بالبرلمان في العاصمة البلجيكية، وبحزب السلطة في بودابست. تنطوي هذه الفضيحة على العديد من الوجوه السلبية لسياسيين يقولون شيئاً في العلن ويفعلون نقيضه في السر؛ إذ كان شايير هذا في طليعة أعداء المثلية ومحاربيها الأشداء. كما يُعد نموذجاً للبرلماني الأوروبي الذي يخرق القانون ساعة يشاء، سواء تعلق الأمر بالإغلاق أم بالمخدرات أم بغيرهما. كان هذا الحدث الذي صدم المتابعين رأس جبل الجليد. تقدر منصة "اتبع المال" الاستقصائية الهولندية في تقرير أخير لها أن نحو 25 في المئة من أعضاء البرلمان الأوروبي (عددهم 705 نواب) في دورته التي بدأت في عام 2019 تورطوا في مخالفات قانونية. وقد أحصت المنصة نفسها 46 قضية تنمّر وتحرش جنسي قام بها 37 نائباً، و45 قضية فساد بينها 16 حالة قبض فيها النائب رشوةً بشكل مباشر، فضلاً عن 44 حادثة سرقة أبطالها برلمانيون! ربما يكون عدد ضعاف النفوس في البرلمان الأوروبي مفاجئاً، أما دخول السياسة على خط عمله فغير مستغرب أبداً، فيما توحي ردات الفعل على بعض ما يجري بأن هناك من يبالغ في تقدير أهمية هذا البرلمان. إنه أمر لافت، خصوصاً أن للسياسة والأمن حصتين متناميتين في مجموع الحوادث المثيرة للجدل فيه. مثلاً، اتُهمت تاتيانا جدانوكا (74 عاماً)، النائبة اللاتفية في البرلمان الأوروبي، بالتجسس لمصلحة موسكو بناءً على تقرير نشرته صحيفة روسية معارضة. وأعربت روبرتا ميتسولا، رئيسة البرلمان، وكبار مساعديها عن قلقهم العميق من "التدخل الروسي" في أعمال البرلمان، وكأنهم ثبتوا التهمة سلفاً على جدانوفكا التي أكدت جازمةً أنها لم تكن يوماً على علاقة بالاستخبارات الروسية "خلافاً للعديد من الشخصيات البارزة حالياً في لاتفيا". لم ينتهِ تحقيق المفوضية في هذا الاتهام، إلا أن كتلة جدانوكا البرلمانية (الخضر / تحالف الأوروبيين الأحرار) قررت طردها، كما مُنعت من الترشح ثانية. لكن، لماذا تريد موسكو التجسس على برلمان "لا أسنان له"؟ وهل يمكن أن تكون هذه التهمة "مصطنعة" لأن جدانوكا من أنصار روسيا الأوفياء؟ هناك ما يوحي بأن البرلمان يعدّ نفسه مهدداً من دولة عظمى. في أواخر نيسان (أبريل) الماضي، كُشف عن جاسوس مزعوم يعمل هذه المرة لمصلحة الصين، وهو مساعد ماكسيميليان كراه، أحد كبار ممثلي حزب "البديل" الألماني المتطرف في البرلمان الأوروبي. إن "جريمة" أي من هذين النائبين لا تُقارن بتلك التي أُدين بها النائب اليوناني السابق يوانيس لاغوس الذي يقبع في السجن منذ عام 2021. ولاغوس من مؤسسي حزب "الفجر الذهبي" المتطرف المحظور الذي ارتكب جرائم قتل وتجاوزات واعتداءات شتى، وأدين لاغوس بالمشاركة في عدد منها فعاقبته محكمة محلية بالسجن 13 عاماً. كذلك، سُجنت مواطنته إيفا كايلي، نائبة رئيسة البرلمان الأوروبي سابقاً، مع ثلاثة نواب آخرين، أحدهم الإيطالي أنطونيو بانزيري، بتهمِ فساد وقبض المال من قطر التي تنفي هذه التهمة جملة وتفصيلاً. اعترف بانزيري وشريكين آخرين بتلقي رشى، لكن كايلي الطليقة اليوم تستمر في إنكار أي تورط في هذه القضية التي لم تبتّ المحكمة فيها إلى الآن. الحقّ أنّ القصة غريبة. فهل يُعقل أن تُغدق دولةٌ ما المال على متهمين من نواب وغيرهم كي يحسّنوا صورتها ويدعموا مصالحها في برلمان لا حول له ولا قوة؟ إنّ طرح نائب أسئلة قد تصب في مصلحة دولة ما لا يبرر اتهامه هذه الدولة بدفع المبالغ الطائلة لمن أدى هذه "الخدمة". والبرلمان الأوروبي هو المؤسسة الوحيدة المنتخبة في الاتحاد الأوروبي، وهو مخول التصويت على التشريعات والموازنات، وعلى تعيين رئيس المفوضية وإقرار المفوضين الأوروبيين. ثمة "صلاحيات" أخرى تُسند إليه يبقى الكثير منها نظرياً. وهو لا يشارك في صناعة القرارات والمواقف التي يتبناها الاتحاد. كما أن ثمة ملاحظات بشأن عدم مواظبة النواب على حضور الجلسات وممارسة واجب التصويت؛ إذ ينشغل العديد منهم بأعمال خاصة خارجية مدفوعة الأجر، ربما تتداخل فيها المهمات المهنية البحتة مع التوسط أو عمل جماعات الضغط. هكذا، لم يكن لهذا البرلمان دور فعلي في كيفية التعامل مع جائحة "كوفيد" في أي من مراحل مكافحتها، حتى قيل إن أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، تدخلت في صفقة شراء نحو مليون من جرعات اللقاح الذي أنتجته شركة "فايزر"، ولم ترضَ أن تُدلي بشهادتها أمام اللجنة البرلمانية التي كانت تنظر في الأمر، ولا أن تطلعها على تفاصيل العقد مع الشركة! وعلى الرغم من الصخب في البرلمان بشأن غزو أوكرانيا ومقاطعة روسيا، بقي النواب على الهامش تماماً لناحية القرارات الفعلية التي اتخذتها المفوضية وقادة الدول الـ 27، كما لم يُسألوا رأيهم بشأن التعامل مع "طوفان الأقصى" وحرب الإبادة التي تلته. ومع اقتراب موعد الانتخابات الأوروبية بين 6 حزيران (يونيو) المقبل و10 منه، تتبارى استطلاعات الرأي في رصد حظوظ الكتل المختلفة. إلا أن قلة من المحللين، الذين يمتشقون أقلامهم ليسطّروا المطولات عن مدى النجاح المتوقع لليمين المتطرف، تكبدت عناء النظر في احتمالات حصول ما يشبه "الصحوة" الأخلاقية في البرلمان المقبل. وسواءً صدقت التكهنات ورجحت كفة اليمين الشعبوي أم لا، فإن لم يكن البرلمان الجديد "أنظف" من سابقه، وإن لم تُسند إليه صلاحيات تجعله مؤثراً فعلاً، سيكون أشبه ببرلمانات دول محرومة من نعيم الديموقراطية، لا يُحسب له أي حساب.