جريدة الجرائد

إلا من ثلاثة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

معلومٌ ما طُبع عليه الإنسان من حبِّ الاستزادة من المال، وهذه الطبيعة لا يُؤاخذ عليها الإنسان إن بذل الحقوق وأدَّى الواجباتِ، وتصرَّف حسب المأذون له فيه، فلا سقف للكسب الحلال المشروعِ، المضبوط بضوابط الشرع والنظام، لكن الحياة الأخروية الدائمة هي الأوْلى بأن لا يُدَّخَر الجهد في الكسب لها، وأن يجتهد لها في الأعمال التي تُدِرُّ الأجورَ على مدار الوقت؛ لأن الآخرة هي دار المصير التي ينال فيها الإنسان جزاء ما كسب، فإما راحة لا تعب بعدها، وإما عَناء منقطع النظير، ومن حكمة الله تعالى أنه قيض لعباده الدار الدنيا ليعملوا فيها ما داموا أحياء، وجعلَ الموت فاصلاً بين دار العمل ودار الجزاء، لكن شرع لهم ثلاث فرص يستمرُّ إنتاجها لمن مهَّد لها في الدنيا، وقد ورد التنصيص على هذه الفرص الثلاث في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: (إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ) أخرجه مسلم، ولي مع هذه الثلاث وقفات:

الأولى: الصدقة الجارية، وإنما تَجري الصدقات إذا كانت وقفاً حُبسَ أصله عن التصرف في عينه، وسُبّلت منفعته في جهة برٍّ، سواء كانت الجهة خاصةً كذريّته، وأهل بيته وأقاربه، أو عامةً كالمنافع العامة من بناء المساجد وعمارتها والصرف عليها، ونحو ذلك من وجوه الإحسان التي يستفيد منها الجميع، والوقف من روافد التنمية الاجتماعية الْمُعتنى بها عند المسلمين، والتي تُجَسِّدُ ما بُنِيَ عليه هذا الدين الحنيف من الرحمة والرأفة، والعناية بالإحسان، وإشاعة روح التكاتف والتآزر، وقد ثبتت مشروعيته والترغيب فيه بقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الآنف الذكر، وبفعله، وبإرشاده لمن استشاره في صدقته إلى أن يجعلها مسبّلةً، والوقف بصورته المتقررة شرعاً من خصائص هذه الأمة، فقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (وَلَمْ يَحْبِسْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا عَلِمَتْهُ دَارًا وَلَا أَرْضًا وَإِنَّمَا حَبَسَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ)، ولما كان الوقف مالاً ينمو نماء حسناً؛ نظراً لعدم المساس بأعيانه حامت حوله أطماع النفوس، فكانت محاولة التعدي عليه شائعةً على ممرِّ العصور، وقد هيأ الله تعالى لنا في دولتنا المباركة المملكة العربية السعودية أنظمةً تضمن حماية الوقف من عبث العابثين، وتضمن نيل الموقوف عليهم حقوقهم من الوقف، وقضاؤنا المبارك كفيل بردع من تسول له نفسه النيل من حقِّ غيره في ذلك.

الثانية: علم ينتفع به، والعلم النافع ميراث النبوة، ففي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ) أخرجه ابن ماجه، فلا عجب أن يمتدّ أثره، وتُجنى ثماره على امتداد الوقت، وفي مقدمة العلم الذي يدوم ثوابه: العلمُ الشرعي وآلاته التي يتوقف عليها من أصولٍ ومصطلحٍ ولغةٍ، ولا يتوقف هذا الأجر على التبحر في العلم وكثرة التأليف فيه، بل يشمل -كما قاله العلماء- من علَّم شيئاً من العلمِ، وانتفع الناس بما علَّم من ذلك أو أرشد إليه، وكذلك من أعان على نشر العلم بطباعةِ مصحفٍ أو كتابٍ أو أو وقفهما أو نحو ذلك، ويلتحق بما تقدم العلمُ الدنيويُّ النافع الذي يرتفِقُ به الناس في أمور معاشهم، فصاحبه مُثابٌ على احتساب الأجر في تعلمه وتعليمه والتأليف فيه، قال الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى: (فإذا كان مع الإباحة نوى الخير: نوى أن ينفع الناس، نوى أن يُعين ولاة الأمور على الخير، نوى أن ينفع المجتمع؛ فله نيته الطيبة، وله أجره بهذه النية الطيبة)، وإذا استمر انتفاع الناس به استمرت أجور من خلَّفه.

الثالثة: ولد صالح يدعو له، وهو رأس مال الحياة، والأثر الطيب الذي لا يخلو عاقلٌ من تمني الحظوة به، وبه يبقى الذكر الحسن للإنسان، وتمتد جذوره العائلية بأبهى الصور وأكثرها ائتلاقاً، وهو من أكبر النعم كما قال القائل:

نِعَمُ الْإِلَه على الْعبادِ كَثِيرَةٌ .... وأجلُّهن نجابةُ الْأَوْلَادِ

وصلاحُ الذرية منحةٌ من الله تعالى يجب على الوالدين أن يبذلا السبب في تحصيله، ومن أهم أسباب تحصيله الاستقرار الأسري، فهو مهمةٌ تحتاج إلى استقرار الولد نفسيّاً، وتعاضد جهود الوالدين على تربيته بالوجه الأكمل، وهذا يحتاج إلى أسرةٍ متماسكةٍ مستقرةٍ، كما أن من أهم أسباب صلاح الذرية الدعاء لها بالصلاح، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الولد مستقيماً أو غير مستقيم، فالمستقيم يحتاج إلى الدعاء له بالاستمرار، وغيره لا يجوز اليأس من استقامته.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف