جريدة الجرائد

بحثا عن حس حضاري!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

سابقاً، كانت لنا مجموعة من الجامعات لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة، وكانت هذه المؤسسات الأكاديمية والتربوية والبحثية والثقافية تعمل بطريقة عالية ومثالية، وبنظام معرفي وإداري صارم. كانت للطالب الجامعي مكانته المحترمة في المجتمع، صورة مثلى، وكان يقبل على الجامعة مليئاً بالأحلام، أحلام تغيير العالم من حوله وفيه نحو الأفضل والأجمل، أحلام سوسيومهنية وأخرى أكاديمية وثالثة سياسية، كان يشعر بأنه يتحمل وزر مسؤولية تاريخية تجاه وطنه.

وبعيداً من كل ديماغوجية كان يطمح ويسعى كي يحوّل صورة وطنه إلى صورة شبيهة بتلك التي حلم بها الشهداء، وطناً قوياً ومتماسكاً وعادلاً ومتنوعاً وموحداً وديمقراطياً، سابقاً كان الطالب يحلم بأن يسافر نحو بلدان العالم جميعها ولكن برغبة العودة إلى وطنه بعد أن يشحن بطاريته بالحماسة وبالتفاؤل وبالمقارنة.

سابقاً، كان الأستاذ الجامعي نوراً وتنويراً، محاضراته ينتظرها الطلبة بشغف فيمتلئ المدرج على آخره، ومنشوراته من كتب ومقالات تُقرأ بشهية وإعجاب ولها تأثير في الطالب فكرياً وجمالياً وسياسياً وأخلاقياً. وكانت المناقشات لا تتوقف في الأدب والفلسفة والفكر والسياسة واللغة والتاريخ...

سابقاً، كان للشهادة الجامعية معنى وقيمة، وكانت احتفالاً شخصياً وعائلياً ومفخرة وطنية.

اليوم، بنينا مئات الجامعات، وهذا شيء إيجابي جداً، بنيناها في المدن الكبرى والمتوسطة والصغرى، بل حتى في بعض القرى، لكن هذه الجامعات على كثرتها أصبحت فارغة من الفكر "الجامعي" الكوني الإنساني، من دون طاقة فكرية خلاقة، من دون عبقرية، لقد تحولت إلى ما يشبه المدارس الابتدائية القروية، إلى ما يشبه حضانة خاصة بالشباب المراهقين، وجراء ذلك تحول الطلاب إلى "كتلة بشرية"، إلى رقم يصل إلى الآلاف، وفقد الطالب طاقة الحلم، لم يعُد يحلم سوى بحلم واحد هو مغادرة البلد، الهجرة إلى ما وراء البحر، وأصبح الأستاذ الدكتور لا يتسقط سوى "أخبار" الزيادة في الأجور، في الترقية الإدارية أو في الحصول على مسكن!. لقد فرغت الجامعة من بعدها الثقافي وغيبت عنها جميع النقاشات السياسية والفكرية والأدبية التي كانت تمتد حتى آخر النهار وتتواصل ليلاً في المقاهي وفي المدن الجامعية!.

سابقاً، كانت لنا مجموعة قليلة من المساجد، بيوت الله، في المدن والقرى، كما تم تحويل بعض الكنائس والمعابد اليهودية بعد الاستقلال إلى مساجد بعدما غادرها الأوروبيون مع مطلع الاستقلال، وكانت لنا بعض المصليات البسيطة هنا وهناك، لكن المؤمنين كانت قلوبهم عامرة بحب الله، وبالتقوى وبالإيمان الصادق، وكان المصلون يقبلون على المساجد للصلاة بلباس جزائري جميل، بسيط ومتناسق، تعبق منهم روائح عطرة، مبتسمين ومتفائلين وأنيقين. على رغم أن عطلة الأسبوع كانت يومي السبت والأحد إلا أن يوم الجمعة كان يوماً خاصاً، له مكانته المميزة في القلوب وفي الحياة العامة، ولأنه يوم الصلاة الكبرى كان الجميع يقبل عليها بإحساس إيماني عميق، وكان الاستماع إلى الخطبة بخشوع، وكان للإمام نور في الوجه وبريق نوراني في العينين، وكانت كلماته السمحة الهادئة تشرب كالماء الزلال، كان شخصية محبوبة من قبل الجميع، صوته مسموع وذائع. كان المسلم في بيوت الله القليلة هذه مسلماً مؤمناً بالله لا بقيصر.

اليوم، بنينا آلاف المساجد، بالمال الخاص وبموازنة الدولة، بنينا المساجد بطرق شرعية وغير شرعية، بتخطيط هندسي وبفوضى، بنينا المساجد العملاقة والكبيرة والمتوسطة والصغيرة والصغرى، وهُيّئت مئات الآلاف من قاعات الصلاة في كل المؤسسات وفي المطارات وفي محطات القطارات وفي محطات النقل البري وفي محطات التزود بالوقود على الطرق السيارة وغير السيارة وفي المدارس... هذه المساجد بنيت بذوق عمراني معاصر تارة وأندلسي تارة ثانية وهجين مرات كثيرة. يتسابق المصلون إليها ويتنافسون على احتلال الصف الأول وكأن الله لا يرى من عباده المصلين سوى من يقف في الصف الأول!. بعض المصلين يقاطعون مسجداً لمصلحة مسجد آخر، المساجد تسيّست وارتفعت فيها خطب حادة وعنيفة وأيديولوجية، وأمام هذا الوضع وجد المؤمن نفسه مجبراً على اختيار مسجد لأداء الصلاة وكأنما هو يختار حزباً للانتخاب عليه أو لمصلحته!. أصبح بعض المصلين يقبلون على المساجد بملابس غريبة وغير محترمة ومثيرة مرات كثيرة، فالمصلون في عجلة من أمرهم، في عصبية، والمساجد مجهزة بنظام التبريد ومجهزة أيضاً بكاميرات الرقابة!، وأصبح للأئمة نقابة!، وكل شيء تغير!، وازدادت الفوضى وارتفعت نسبة الجرائم والطلاق والعنف بكل أشكاله و"الهرسلة" والتحرش... اليوم كثر المصلون وهذا شيء مفرح ولكن قلّ الإيمان وهذا محزن.

سابقاً، كانت لنا ملاعب قليلة لكرة القدم، ملاعب بمدرجات مفتوحة على السماء والأمطار، معرضة للريح والشمس وللبرد والقيظ، كانت لنا مجموعة من النوادي المرموقة البسيطة وكمشة من اللاعبين النجوم، كانت الملاعب من دون عشب طبيعي أو اصطناعي، وكانت المباراة التي تجري في الوحل مرات وفي العجاج تارة أخرى تشبه القصيدة في شعريتها وتسامحها وأخلاق المتنافسين فيها، وكان المتفرجون يجيئون لمشاهدة مباراة فريقهم مرتدين أطقماً وربطات عنق كأنما هم ذاهبون إلى سهرة للموسيقى الكلاسيكية، أو إلى حفل عرس. لم تكُن هناك لوحات للإشهار الخاصة بشركات الهواتف النقالة أو الإنترنيت أو البنوك أو ماء "جافيل" أو العصائر أو المشروبات الغازية أو الحليب ومشتقاته... كان المتفرجون يدخلون الملعب ويغادرونه بأدب وأخلاق وسلوك حضاري عالٍ، وكان هناك منتصر في اللعبة ومهزوم، ولم يكُن هناك اعتداء على لاعب أو متفرج، لا كرسي مخرب ولا أنف مكسور!.

اليوم، بنينا أفضل الملاعب بمقاييس دولية، بالعشب الطبيعي المستجلب من مزارع عالمية متخصصة، ولنا آلاف النوادي الممولة من شركات غنية جداً، شركات القطاع العام والخاص، لكننا نعيش مع كل مباراة "القيامة" أو الحشر، فالمتفرجون يجيئون إلى الملعب محملين بالخناجر والحجارة والسيوف والفؤوس وبالكراهية!، وثقافة الانتقام!. يدخلون الملعب وكأنهم ذاهبون إلى ساحة الوغى، إلى حرب فالفريق المنافس وجمهوره يمثلان كتلة الأعداء!. لقد أصبحت الملاعب ساحة ومصدراً لإنتاج العنف، كل أشكال العنف والكراهيات والعنصرية والجهويات القاتلة.

حين يطرد الحس الحضاري من الجامعات ومن المساجد المسيسة ومن ملاعب كرة القدم، فاعلم بأننا أخفقنا في صناعة إنسان قادر على أن يكون حامياً لتاريخه العريق وللقيم الحضارية والإنسانية التي تأسس عليها البلد وضحى من أجلها الشهداء.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف