الروحانية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الأعياد في الإسلام مرتبطة بمناسبة روحانية تسبقها، لم ألحظ هذا في بقية الأديان السماوية الأخرى، فكأن العيد بالنسبة لنا مكافأة على ممارسة طويلة (شهر رمضان) أو قصيرة وشاقة كالحج، مع أن الحج ليس بالضرورة أن يكون قصيراً. يبدو لي أن هذا التحضير النفسي والروحي للعيد هو تعبير عن "رأس" الروحانية التي يفترض أن نشعر بها في هذه المناسبة. لكنْ ثمة اتفاق على أن الروحانية، في حد ذاتها، يصعب تحديد ماهيتها، ولا أحد يستطيع تعريفها بدقة، فهل هي ممارسة العبادة أم الإحساس الذي ينتج عن العبادة؟ هذا التساؤل يمتد إلى جدل طويل حتى عند تعريف المكان، فهناك من يدّعي أن بعض الأمكنة تشعرنا بالروحانية لكنه لا يحدد كنه هذا الشعور. في الحياة هناك "أشكال مادية" و"أفعال أو استخدامات" لهذه الأشكال المادية (بما في ذلك الأمكنة) وهناك "معانٍ" مرتبطة بالأشكال والأفعال، وكل من هذه الأركان الثلاثة تحتوي على عناصر مكوّنة لها تحدد ماهيتها. من خلال هذا التصور يجب أن أشير إلى أن كل من يتحدث عن الروحانية لابد أن يشير إلى المكان الذي تتمظهر فيه، فالكعبة تشعر المسلمين والحجاج بالروحانية فهي مكان وشكل يخلق أفعالاً وممارسات ويصنع معنى، لكن كل هذا لا يعرّف الروحانية التي يبدو أنها تختلف من شخص إلى آخر كما تختلف المعاني كذلك ودرجات تأثيرها في النفس.
ومع ذلك يجب أن نشير إلى أن الحديث عن روحانية العيد هو حديث ثقافي، وشكوى كثير من الناس على أن صورة العيد وتأثيره في النفوس تغيرا، هي شكوى تشير بوضوح إلى تغير اجتماعي/ ثقافي ومكاني عميق، فإذا كانت الروحانية تولد من المناسبة التي تسبق العيد إذاً فلماذا يشعر الناس بهذا التغير الروحاني. الأمر مرتبط بالكيفية التي تُولّد بها ثقافة ما المعاني الخاصة بها والتي تميزها عن غيرها. عند مشاهدة مظاهر العيد عند الشعوب الإسلامية المختلفة نجد سلسلة من التقاليد المتنوعة التي تختلف من بلد إلى آخر بل من مدينة إلى أخرى لكنهم جميعاً يحتفون بالعيد في نفس الوقت (على الأقل عيد الأضحى المبارك) لكنهم يتنوعون في طريقة الاحتفاء والتقاليد المرتبطة به. من يعرّف الروحانية من خلال المظاهر المادية المرتبطة بها هو يمارس منهجاً فكرياً يرى أن الأشكال والأمكنة المحيطة بالإنسان والممارسات التي تحدث فيها هي التي تؤثر على الشعور وتخلق الإحساس بالروحانية. لكن هناك من يرى أن الشعور يسبق الأشكال المادية واستخداماتها ويرى أن الشعور هو الذي يجعل من هذه الأشكال ذات قيمة فما هي إلا أدوات للتعبير عن الروحانية.
المهتمون بالعمارة الدينية هم أكثر من يتحدث عن روحانية المكان، والمهتمون بعمارة المسجد على وجه الخصوص يرون أن تواضع المسجد وبساطته هي التي تجعله أكثر حميمية وارتباطاً بالناس على عكس الكنيسة التي تشعر مستخدميها بالهيبة، ويرون أن الروحانية تولد مع الحميمية والتواضع وإحساس الإنسان بوجوده وقدرته على خلق مكانه الخاص، وهذا ما يصنعه المسجد. أذكر أن الأمير سلطان بن سلمان كان يتحدث عن مسجده الطيني الصغير في مزرعة العذيبات في الدرعية ويقول: إنه مكان يشعرني بالهدوء والصفاء ويساعدني على التأمل. ومع ذلك لم يتفق المختصون حتى اليوم على معنى لروحانية المسجد، فلا يعني أنه مكان للعبادة أنه يخلق الشعور بالروحانية لأن هذه الخاصية موجودة داخل الإنسان والمكان هو مجرد "حافز" يخرج هذا الشعور إلى العلن.
ثمة علاقة عميقة بين الروحانية والتأمل، لذلك كثير من الناس يشعرون بالسكينة في المكان الصغير الخافت ولعل هذا يعزز منهج أن الروحانية هي نتيجة للأمكنة والأشكال، لكن ملاحظاتي الطويلة تشير إلى أن "الاستعداد" لدى بعض الناس للاستجابة للأمكنة والأشكال المحيطة بهم والتفاعل معها والدخول في حالة التأمل والانقطاع عما حولهم هي الأهم. في اعتقادي أن تغير مظاهر الروحانية في العيد ليس فقط بسبب تغير الأمكنة بل لكوننا أصبحنا أكثر استعجالاً، فالهدوء الذي كان يميز أسلافنا خلق لديهم القدرة على "تذوّق العيد" وممارسة مظاهره في الأمكنة البسيطة وبأدوات مادية أكثر بساطة. يبدو لي أن مفتاح الروحانية، التي عجز الجميع عن تعريفها، يكمن في القدرة على التأمل، ويظهر أن هذه القدرة تتقلص لدى البشر بشكل سريع وصارت تُفقد الناس القدرة على الهدوء وعلى رؤية الأشياء بوضوح والاستمتاع بها. لا أدعي أن هذه النتيجة هي قطعية ولكن مصطلح "الروحانية" يذكرني بكثير من المصطلحات الإعجازية التي يصعب أن تمسك لها طرفاً.
يمكن أن أختم المقال بسنة كونية مرتبطة بطبائع الأشياء لدى البشر، فالإنسان لا يستطيع العيش من دون تعريف الأشياء وتسميتها واستخدامها في التعريف بنفسه والتواصل مع غيره، وهناك تعريفات كونية يتفق عليها البشر جميعاً لكنهم غالباً ما يحولونها إلى تعريفات خاصة مرتبطة بثقافاتهم وهذا ما يخلق التنوع الثقافي الهائل في عالمنا. الروحانية أحد المصطلحات الكونية التي يتفق عليها الجميع ولا يستطيع أن يحدد ماهيتها أحد، وكل ثقافة تكيّفها حسب معتقداتها وأمكنتها وممارساتها الاجتماعية. يمكن أن نرى التراجع في الإحساس بالعيد على أنه تراجع في قدرتنا على تكييف مفهوم الروحانية لأنماط الحياة الجديدة التي نعيشها خصوصاً تلك التي تقلل من قدرتنا على التأمل بهدوء والتواصل مع الآخرين برغبة.