الليبرالية الفكر والظروف وسنوات التكوين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
يرجع الفكر الليبرالي، في مصادره الرئيسة إلى كتابات ما يسمى بفلاسفة التنوير .. كـ (جون لوك، وآدم سميث، وفولتير، وروسو، وبنثام، وألكسيس دي توكفيل، وجون ستيوارت مل). وإن كان الفكر الليبرالي لم يتشكل على يد مفكر وفيلسوف واحد، أو يظهر في زمن ومكان واحد ، بل وضع أصوله عدد من المفكرين والفلاسفة في أزمنة وأمكنة مختلفة ، على مدى أربعة قرون . ولذلك فإن تحديد اللحظة أو التاريخ الذي تنطلق فيه أي فكرة أو حركة أو نظرية، ليس مما يمكن البت فيه على وجه الدقة. فالأفكار التي تدفع بالحركة إلى الوجود، تبدأ قبل الفعل بسنوات، وربما بأجيال، ولكن الباحث الاجتماعي يستطيع أن يحدد حدثًا معينًا يدفع بأفكار الحركة إلى التفاعل مع الواقع. فالليبرالية الغربية لم تنطلق كفكرة متكاملة، وإنما مرت بسنوات تكوين ولم تتشكل كنظرية متماسكة إلا بعد سنوات طويلة من نشأتها، كغيرها من النظريات والحركات الاجتماعية والمذاهب الفكرية والفلسفية. إلا أن بعض الباحثين في الحركات الاجتماعية يؤرخون بالقرن السادس عشر الميلادي بداية أسس المبدأ التحرري، وفي القرن السابع عشر تسلم العقل قيادة الفكر الفلسفي للتحرر من سلطة الكنيسة، إذ إن التجربة الدينية للمسيحية الأوروبية في القرون الوسطى كانت تجربة مريرة للمسيحية. وفي القرن الثامن عشر كانت بداية تداول مصطلح الليبرالية وصولًا إلى القرن التاسع عشر الذي يعتبر لدى معظم الباحثين الاجتماعيين التاريخ الذي انطلقت فيه الليبرالية. يقول جون جراي: إذا كان لليبرالية تاريخ محدد، فهو القرن التاسع عشر، حين اكتسبت الليبرالية مدلولها المعاصر. إذ إن مصطلح ليبرالي لم يستخدم منهجيًا قبل ثلاثينيات القرن التاسع عشر. وقيل أن حروب الأديان الطاحنة والطويلة التي شهدها تاريخ أوروبا في العصور الوسطى، والتي قادت الى التسامح، كانت لحظة ميلاد الليبرالية، وإن كان هذا الربط المنهجي لا يستقيم مع المذاهب الفكرية، إذ إنه يعود إلى حقيقة التسامح وليس إلى الليبرالية. وقد حاول بعض المفكرين تحديد بداياتها من خلال مجالاتها: ففي المجال السياسي كان الحزب الإسباني أول من تبنى كلمة الليبرالية عام 1810م. وفي عام 1886م نشأ في بريطانيا حزب ليبرالي، تشكلت منه أول حكومة ليبرالية في بريطانيا، حكومة وليم جلاد ستون. أما في المجال الفكري فيرجع إلى ديمقراطي أثنا القرن الخامس قبل ميلاد المسيح عليه السلام، وإلى حركة الإصلاح البروتستانتية، وإن كان هنالك من المؤرخين الاجتماعيين من ينظر لليبرالية بأنها مجرد ردود أفعال لتسلط الكنيسة والإقطاع في العصور الوسطى في أوربا. وإن كان شارك في تكوين الفكر الليبرالي ثلاثة مصادر رئيسية هي: كتابات جون لوك وأفكار فلاسفة ما يسمى بالاستنارة والمدرسة النفعية، بالإضافة إلى تأثير كل من الثورتين الأمريكية [1776م] والفرنسية [1789م]. ولكن لا يغيب الأثر الكبير في نشأة الليبرالية الذي أحدثه كل من المذهب البروتستانتي وحركة الإصلاح الديني، فقد ساندا الليبرالية بأفكارهما الجديدة، وأضعفا سلطة الكنيسة وتبنيا النزعة الفردية والاقتصادية. يضاف إليهما الحركة الأدبية ذات النزعة الإنسانية التي قامت ببعث الآداب الإغريقية اليونانية بما تحمله من معاني التحرر من قيود الكنيسة، وقد دفعت هذه الحركة الفكر الأوروبي نحو الليبرالية من ناحية التحرر من العقائدية الدينية، والظهور على الفكر القديم، وتعميق مبادئ الفردية والحرية، وتعظيم دور الإنسان الفرد، والتركيز على محوريته. ولم تظهر الليبرالية بوصفها مذهبًا سياسيًا قبل القرن التاسع عشر، ولكنها قامت بوصفها أيدلوجية قامت على أفكار ونظريات تنامت قبل ذلك بـ300 عام، حيث نشأت الأفكار الليبرالية مع انهيار النظام الإقطاعي في أوروبا، والذي حل محله المجتمع الرأسمالي أو مجتمع السوق وبتعبير آخر اقتصاد السوق الحر بحسب المفكر الأمريكي - الياباني الأصل - فوكوياما. وتتعدد مجالات الليبرالية إلى ثلاث مجالات: السياسية، والاقتصادية، والفكرية. فالليبرالية السياسية نظام سياسي يقوم على ثلاثة أسس العلمانية والديمقراطية والحرية الفردية التعددية والفصل بين السلطات. أما الليبرالية الاقتصادية فهي نظام اقتصادي يؤمن بأن الاقتصاد تحكمه قوانين ثابتة تقوم على العرض والطلب، وتعتبر الرأسمالية هي المكون الرئيسي لليبرالية الاقتصادية، وأصبح مصطلح الليبرالية الاقتصادية واقعًا ملموسًا في الفكر الاقتصادي، وتتمثل الليبرالية الاقتصادية في الملكية الخاصة، وحرية التجارة والتملك. والليبرالية الفكرية تعني استقلالية الفرد بشكل كامل في تحديد خياراته الفكرية والعقائدية. وترتكز الليبرالية على منظومة من القيم والمبادئ الأساسية للبرالية وتتمثل في: الفردانية: وتعني العناية بالفرد واحتياجاته وخياراته ورغباته، وذلك عن طريق تقوية مركز الفرد في المجتمع، والفردانية مذهب فكري - سياسي ينطلق من اعتبار الفرد أساسًا في تفسير التاريخ. الحرية: تعد الحرية الفردية القيمة العليا في الفكر الليبرالي وأهم المفاهيم الكبرى التي تقوم عليها الليبرالية فالفكر الليبرالي مبني على مفهوم الحرية. العقلانية: وتعني استقلال العقل بإدراك الحقائق، وذلك عن طريق الحس والتجربة. المساواة: أن يتمتع الأفراد بحقوق متساوية لإنسانيتهم بقطع النظر عن العرق، أو الجنس أو الدين، أو الخلفية الاجتماعية. التسامح: مبدأ اجتماعي إنساني يقوم على احترام حريات الآخرين وقبول الآخر. الإنسانية: تعني أن الليبرالية في جميع مجالاتها إنسانية الطابع والهدف. فالليبرالية من الناحية الفكرية، تعني حرية الاعتقاد والتفكير والتعبير، ومن الناحية الاقتصادية، تعني حرية الملكية الشخصية. وقد شهدت العقود الأخيرة تناميًا ملحوظاً لتأثير التوجهات الليبرالية في دول العالم، حيث استطاع الاتجاه الليبرالي أن يفرض رؤيته الفكرية منذ تهاوي المنظومة الشيوعية في ثمانينيات القرن الماضي، وقد تبنى الترويج لهذه الفكرة بعض المفكرين في الغرب وبخاصة المفكر الأمريكي - الياباني الأصل &- فوكوياما [Fukuyama]، والذي يعد من أبرز دعاة الليبرالية في الولايات المتحدة الأمريكية، معتبراً الليبرالية الأمريكية ما يطلق عليه الإنسان الأخير أو نهاية التاريخ وأساس التطور الحضاري والإنساني، والحل الأمثل لمشكلات الإنسانية والخيار الحقيقي للنهوض الحضاري باعتبارها الشكل الوحيد الذي ظل صامداً حتى نهاية القرن العشرين، والذي يعده انتصاراً أبدياً للقيم الأمريكية. وقد لاقت هذه النظرية ردود فعل عريضة وواسعة على مستوى العالم؛ إذ اعتبرت استعلاءً فكرياً وتهميشاً إقصائيًا لحضارات عريقة، وقد وظف دعاة الليبرالية في الغرب الفكرة الليبرالية من خلال المؤسسات والهيئات والمنظمات الدولية، وهو ما أكد عليه المفكر عبد الله العروي، حينما قال إن المنظومة الليبرالية لا تعمل بمفردها، بل توظف لمساعدتها مذاهب وهيئات دولية و[شخصيات سياسية]. ومع حالة الانبهار التي صاحبت الفكر الليبرالي على مستوى دول الغرب الصناعي ، إلا أن هذا الفكر لم يسلم من النقد داخل محيطه الغربي، وذلك بعد أن أنشأت الأفكار عبر المصالح وأصبحت الأخلاق خارج التفكير، وذلك عندما اعتقد الفكر الليبرالي بأنه وصل إلى مرحلة الرشد وشب عن الطوق ولم يعد بحاجة إلى توجيه روحي، (وهذا يعبر عن يأس روحي وورطة تاريخية). فالحضارة المادية وإن قدمت إنجازات نوعية للإنسان، الإ أنها عاجزة أن تمده بما يحتاجه من أخلاقيات وروحانيات، لأنها أنكرتها أساساً.