رهانات روسيا على إفريقيا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
يلاحظ المراقبون أن هناك تركيزاً غير مسبوق لروسيا على تطوير علاقاتها مع الدول الإفريقية وعلى ترسيخ وجودها في القارة السمراء، وقد بدأ هذا التركيز يأخذ أبعاداً جيواستراتيجية كبيرة منذ سنة 2017 من خلال العمل على دعم التعاون الأمني والعسكري مع عدد كبير من الدول الإفريقية، بما فيها تلك التي ظلت لعقود طويلة، جزءاً من النفوذ الجيوسياسي للدول الغربية، ويبدو ذلك جلياً في العديد من مناطق القارة الإفريقية مثل منطقة الساحل التي انتقل فيها التأثير السياسي من فرنسا إلى روسيا. ويأتي الرهان الروسي على النفوذ في إفريقيا في سياق تنافس دولي قوي على المصالح الاقتصادية والجيوسياسية في هذه القارة، لاسيما بين الدول التي تملك قدرات اقتصادية هائلة وخبرة طويلة في التعامل مع إفريقيا وبين القوى الصاعدة مثل، الصين، إضافة إلى القوى الإقليمية التي تملك إمكانات اقتصادية قوية مثل، تركيا ودول الخليج.
ويستمد الحضور الروسي في إفريقيا قوته من التحوّلات الكبرى التي بدأ يشهدها العالم خلال السنوات الأخيرة، التي تميّزت بميلاد تحالفات كبرى ما بين دول الجنوب في سياق ما بات يعرف بالجنوب الشامل، وقد كان لنشأة تحالف مجموعة البريكس دور محوري في إقناع العديد من الدول الإفريقية بأهمية إقامة شراكات بناءة بعيداً عن الهيمنة الغربية التي ظلت تستنزف قدرات الدول الإفريقية، وتفرض عليها علاقات اقتصادية غير متوازنة تخدم اقتصاديات الدول الغربية في المقام الأول.
يشير الباحث أوجين بيرغ، إلى أن من نتائج الاستراتيجية الجديدة لروسيا، هي أنها في طريقها لأن تُصبح في عدد متزايد من الدول، كأحد الفاعلين الذين يجب أخذهم في الحسبان في سياق التنافس، الذي يحدث في العالم من أجل الحصول على الموارد الطبيعية في إفريقيا لاسيما في منطقة جنوب الصحراء، حيث حققت روسيا في هذه المنطقة نجاحات لم تستطع الدول الغربية تحقيقها، الأمر الذي يرسّخ مكانتها كفاعل مؤثر على مستوى الساحة الإفريقية. ويتساءل الباحث في هذا السياق قائلاً: إذا كانت بعض الدول على غرار تركيا والهند والصين تقوم باختراقات مهمة في إفريقيا، كيف يمكننا أن نفسّر أن الحضور الروسي في القارة يُحدث هذا المستوى المرتفع من القلق لدى الدول الغربية؟ ومن ثم فهل إفريقيا تمثل محمية خاصة لبعض القوى أم هي قارة مفتوحة أمام المنافسة الدولية؟
تؤكد التحليلات والمقاربات المتداولة في هذا الشأن، أن الوجود الروسي في إفريقيا يقلق الغرب لكونه يتجاوز سقف التعاملات الاقتصادية ليشمل مجالات بالغة الحساسية تتعلق بالأمن بدلالته المزدوجة العسكرية والسيبرانية، الأمر الذي يؤثر بشكل لافت في علاقات الدول الإفريقية بالقوى الاستعمارية السابقة، ويمنح لها فرصاً أكبر لتعزيز سيادتها في مواجهة القوى الغربية، وبالتالي فإنه ورغم تواضع الإمكانات الاقتصادية لروسيا مقارنة بالفرص الاستثمارية التي توفرها الدول الأخرى، إلا أن العوامل الجيوسياسية تلعب دوراً مؤثراً في هذا الشأن، لاسيما فيما يتعلق بتحويل التكنولوجيا في مجال الصناعات الدفاعية والاستثمار في مجال إنتاج الطاقة النووية الموجهة لأغراض سلمية؛ وذلك ما يساعد روسيا على إيجاد أسواق واعدة بالنسبة للمجالات التي تملك فيها مؤهلات محترمة، ويسمح لها أيضاً بتجاوز الحصار الأطلسي في شرق أوروبا من خلال فتح جبهة مواجهة في الجنوب غير بعيدة عن سواحل دول غرب أوروبا.
وعليه فإن رهانات روسيا على إفريقيا لم تكن فاشلة كما يؤكد مسار تطور الأحداث، بل سمحت لها بتحقيق العديد من أهدافها وبخاصة بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا وما نجم عنها من إصرار غربي على عزل روسيا على المستوى الدولي، ولكن من دون جدوى حتى الآن، بسبب رفض الجنوب الشامل، الاصطفاف خلف الأطروحات الغربية، ومعارضة الأغلبية الساحقة من الدول الإفريقية لخيار دعم الغرب في حربه ضد روسيا، انطلاقاً من قناعة النخب الإفريقية بأنها غير معنية بالحرب في أوكرانيا بين الناتو وروسيا، لأن أولويات شعوبها تختلف عن أولويات القوى الغربية.
وتسعى الدول الغربية إلى انتقاد النزعة السيادية والوطنية للدول الإفريقية من خلال العمل على تسويق أطروحة مؤدّاها، أن تحالف روسيا مع الدول الإفريقية، هو تحالف لدول &"استبدادية&" لا تحترم الديمقراطية، بسبب ما تقول العواصم الغربية: إنه دعم روسي للانقلابيين وللأنظمة العسكرية في إفريقيا خصوصاً في دول الساحل؛ لذلك فقد شعرت فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، بحرج بالغ عندما أفرزت، مؤخراً، صناديق الاقتراع في السنغال نخبة سياسية جديدة متمسّكة بمبدأ السيادة الوطنية، وتحرص على إعادة بناء العلاقات مع المستعمر السابق على أسس قائمة على الندية وعلى حماية المصالح العليا للسنغال.
ويعتقد المراقبون أن ضعف الدولة في ليبيا وتصاعد المواجهة بين الفرقاء السياسيين بسبب حماقة السياسات الغربية، جعل من الحدود الليبية رافعة جديدة للاستراتيجية الروسية ولرهاناتها في شمال إفريقيا ومنطقة الساحل، إذ إن اتساع الحدود الليبية مع الدول الإفريقية، يمنح لموسكو القدرة على التحرّك بسهولة وعلى نطاق واسع لاسيما في الشرق والجنوب بفضل شركاتها الأمنية ومدربيها ومعدّاتها العسكرية، التي تسمح لحلفائها بمتابعة التطورات التي تحدث في المنطقة.