جريدة الجرائد

التهيّؤ الحواري

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

مرّ عقد ونيف من الزمن، ومازالت ذاكرة المكان والزمان تحملني لذلك اليوم الذي هبطت فيه طائرتي أرض كندا، لتأخذني من عالمي إلى عالم المجهول لشهور.

لاتزال الذاكرة الرطبة برائحة العشب والمطر تحت شقتي تهيج فيّ القصص، وتعود بي في سفرٍ إلى الذاكرة، للحياة التي لم أخطط لها، ولا أدري غير أنها تدبير الخالق العظيم.

لكل من يرى طلاقة اللسان في أحدهم، وجرأته في المكان، وحضوراً في الملأ، إذن لا بدّ أن يبحث عن أصل الأشياء، وهذه عندي أصلها، حيث بدأ ذلك عام 2010، حين ولجت قاعة مفتوحة فيها أكثر من مكتب، وفي انتظاري الذي كان يجوب المكان في تفاصيله القاتمة، حتى استقررت على طاولة شبه قديمة، لا أدري كم مرّ عليها من أفراد، هنا كانت الحوارات الأولى، ودونما دراية بدأ الخوف يتملّكني من قمة رأسي حتى أخمص قدمي.

بعد عقد من الزمن، أدركت أن التعب الذي يمر به المرء، وخبرته التي يكتسبها، وصبره على ما يجهله، وتعلمه لأشياء جديدة خارج صندوق معرفته، وكسره لحاجز الخوف وخروجه من منطقة الأمان، وقراءاته، وتواضعه في حضرة من هو أخبر منه، وكل اللحظات التي أنصت بعمق فيها، هي ثروته الحقيقية حين يلج مكاناً، فتنصت له الآذان وتفهم جوهر حديثه.

التهيّؤ لأي حوار، فيه استعداد نفسي كبير، لاسيما إذا كان من ستجلس معه من أصحاب القرار، ومن ينصت لك من أصحاب الحظوة. يسبقك الخوف والتردد حتى تكون مؤهلاً لما اخترت له، وتدفعك للأمام ثقتك بما أدركت في سنوات الغربة، وقصص التعلم، والتريّث، وخوض تجارب كانت أصعب منك، والولوج أحياناً لمناطق الحظر والخطر، حتى تتقن لعبة الإنجاز.

حين ترى أحداً يصفق لشخص ما، فتأكد أن هناك الكثير مما لا تراه، ولا تعرفه، وأن خلفه قصصاً ينقبض لها فؤاد المُنصت، وحكايا من عمق التعب والتضحية والبعد الاجتماعي، والتضحيات التي تحتوي على أكثر ما تحب وتهوى.

لتعرف أن ما رأيته ليس دقائق مرت بك مروراً يشبه الدهشة، بل وعي واهتمام بأحداث وخبرات نقلت المرء من حال إلى حال، ومن مكان في المعرفة إلى آخر متقدم. إن المتكاسل في البدايات لن يكون ذا شأن في مشوار الإنجازات أو في خضم التغييرات، ولتدرك أن الذي ترك وراءه الخوف وصار صادقاً في طرحه، جريئاً في فكره ومتمسكاً برأيه وموقفه، إنما هو شخص بنى تاريخه واسمه بتأنٍّ ورَوِيَّة مجملها العمق والاحترام. واللحظة التي يصفق فيها الجمهور هي لحظة انتصار على الماضي الذي عاش فيه التردد، ليصبح اليوم ذا منطوق لا يشوبه الحق والحقائق، وذا صوت يعرف كيف يدافع، لأن التاريخ يشهد له.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف