لماذا تفشل الدبلوماسية في إنهاء هموم الحرب على الجبهة اللبنانية؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
لو أنّ الأجهزة التي اخترعها الإنسان لمعرفة جنس الجنين صالحة في المسائل السياسية، لتمكن المعنيون من معرفة ما إذا كانت الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية المفتوحة على "مناوشات قاتلة" يمكن أن تنتهي الى تسوية دبلوماسية أو الى حرب! الخبراء منقسمون بين من يجزم بنشوب حرب شاملة بين اسرائيل و"حزب الله"، من جهة، وبين من يراهن على أنّ التسوية الدبلوماسية آتية لا محالة، من جهة أخرى. ولكن لم يعد ممكناً الركون الى هؤلاء، فكثيرون منهم يميلون الى أهوائهم. الراغبون ضمناً بالحرب يجدون لها المبررات.
الخائفون من الحرب يبحثون عن أدلّة نفي. وهذا ما يؤكد أنّ هناك تساوياً بين مخاطر الحرب وحظوظ التسوية. حتى تاريخه، نجحت الأطراف المعنية بقرار "الحرب أو التسوية" في أن تكشف لبعضها بعضاً أوراقها. لم يعد هناك شيء مستور، وعلى كل طرف أن يختار الطريق الأنسب، بخسائره المحتملة وأرباحه "المعقولة". أوراق قوة "حزب الله" أظهر "حزب الله" أنّه امتداد فعلي للجمهورية الإسلامية في إيران، وبالتالي، فهو عندما يذهب الى المواجهة، لا يُغامر. لديه قوة بشرية وتسليحية وتدريبية وتكنولوجية ومالية وعقائدية وعمق استراتيجي، وينطلق من بلد يسيطر على قراره وميدانه وإلى حد كبير على قراره. أوراق قوة إسرائيل في المقابل، تملك إسرائيل قوة نيران هائلة وتفوّقاً مذهلاً في سلاح الجو وتحكماً مطلقاً بتقنيات الذكاء الصناعي في التعقب، وعلاقات دولية متينة تسمح للغرب بدعمها وتدفع الشرق الى "استرضائها بالصمت". وقد قدّم كل من "حزب الله" وإسرائيل، منذ فتحت "المقاومة الإسلامية في لبنان" الجبهة الشمالية، الأدلة على توافر عناصر القوة هذه.
ويستند الطرفان إلى هذه الأوراق المكشوفة لتهديد أحدهما الآخر. لكن كل ذلك هو جزء من الصورة، وليس الصورة الكاملة. نقاط ضعف "حزب الله" يمكن لـ"حزب الله" استعمال أوراق قوته في "حرب استنزاف"، لكنه يتردد كثيراً بالذهاب بها الى حرب شاملة. على مستوى الجبهة الداخلية، يعاني "حزب الله" من اضطرابات فعليّة على امتداد لبنان، فحيث لا قدرة له على فرض نفسه على البيئة الشعبية، يجد معارضة متأهبة، تحمّله مسؤولية تدمير ما تبقى من البلاد التي تعاني الأمرين لتوفير الحد الأدنى من الحاجات الضرورية للشرائح الفقيرة الممتدة على أكثر من نصف اللبنانيين وعلى أكثر من ثمانين في المئة من النازحين السوريين. وعلى المستوى العسكري، فهو، في مقابل ما يمكن أن يلحقه من أضرار بإسرائيل، سوف يجلب الدمار الكامل للبنان عموماً وللطائفة الشيعية خصوصاً، على رغم أنّ وعوده السابقة كانت تقوم على شعار" نبني ونحمي". وإذا كانت قدراته قد تضاعفت عمّا كانت عليه في حرب تموز (يوليو) 2006، عندما شهد لبنان تدميراً هائلاً، فإنّ قوة إسرائيل التدميرية تضاعفت هي الأخرى، وبنسبة أكبر بكثير، في وقت تناقصت فيه الدول التي يمكن أن تتبرّع لإعادة الإعمار، خصوصاً بعدما أصبح تمويل "حزب الله" وبيئته، يندرج تحت بند "تمويل الإرهاب"، وأضحت الدولة اللبنانية كياناً ساقطاً تحت هيمنة هذا الحزب المدرج في لوائح العالم السوداء! إيران وسوريا والعراق وعلى رغم وقوف إيران و"جبهة المقاومة" مع "حزب الله"، إلّا أنّ لكل دولة وجهة حسابات "غير حرة"، فإيران التي خفضت من مستوى تعهداتها لـ"حركة حماس" في غزة، تخشى تأهب الولايات المتحدة الأميركية وتدحرج أي توتر بينهما الى حرب يعمل الكثيرون من أجل وقوعها. في هذا الوقت، لا يملك النظام السوري، على رغم السيطرة الإيرانية على "سوريا المفيدة"، أي مصلحة في السماح بفتح أراضيه لحرب مع إسرائيل، لأنّ تهديدات جدية وصلت إليه، من شأنها أن تساهم بإسقاطه، بعدما كانت تل أبيب من "العناصر السرية" الأساسية التي ساهمت بديموته. وإذا كان حوثيو اليمن سيواظبون على استعمال قوتهم الصاروخية في استهداف الملاحة البحرية، في البحر الأحمر، إلّا أنّهم، وعلى رغم كل التهديدات السابقة، لم يقدموا دليلاً مصداقاً على توافر قدرات ممثلة لديهم للتأثير على الملاحة في البحر الأبيض المتوسط حيث توجد حاليّاً ثلاث بوارج حربية أميركية وبريطانية. وعلى رغم اندفاعة التنظيمات العراقية الموالية لإيران نحو مناصرة "حزب الله"، إلّا أنّ تجربة غزة بيّنت أنّ لقدرة هذه التنظيمات على التحرك حدوداً، فهي محكومة بتخفيض التصعيد الميداني مع الولايات المتحدة الأميركية، لأسباب داخلية كثيرة. العطب في "نيوب" إسرائيل في المقابل، فإنّ "نيوب" إسرائيل البارزة، مصابة بمرض، فالولايات المتحدة ترفض لأسباب كثيرة فتح حرب جديدة في الشرق الأوسط، من شأنها أن تورطها في مواجهات لا تريدها، أقلّه حتى إغلاق صناديق الاقتراع في الإنتخابات الرئاسية المقبلة، لأنّ الرؤساء المرشحين يكرهون رؤية جنودهم في "صناديق الموت".
وتعرف إسرائيل أنّ حرباً ضد "حزب الله" لن تكون ممكنة من دون دعم من البيت الأبيض. وإسرائيل نفسها تعاني، فقوات جيشها البريّة مرهقة، ولن يكون خبراً سعيداً لهذه القوات نقلها، مباشرة من قطاع غزة، الى جبهة مشتعلة في الشمال، مع وجوب الاعتناء بالمقاومة المستمرة في غزة، وبحماوة ترتفع، أكثر فأكثر، في الضفة الغربية. وإذا كان وسط إسرائيل مر بخسائر تكاد لا تذكر بالنسبة الى الحرب المندلعة في جنوب البلاد، إلّا أنّه لن يبقى بمنأى عن أي حرب تشتعل في الشمال، وسوف ينضم هو الآخر، بما يشكل من ثقل ديموغرافي واقتصادي، الى المسار النازف. السبابة والوسطى بالتأسيس على كل نقاط الضعف هذه، فإنّ تأكيد كبار المسؤولين الأميركيين أنّ جميع الأطراف المعنية لا ترغب باندلاع حرب شاملة بين إسرائيل و"حزب الله" يقع في مكانه الصحيح. ولكنّ المشكلة التي يمكن أن تقود الجميع الى الحرب، غياب قدرة الدبلوماسية حتى الآن، في إقناع طرف من الأطراف بتقديم تنازلات من شأنها صناعة التسوية، فـ"حزب الله" يريد أن يتمكن من رفع شارة النصر، وتجهيز نفسه، لمرحلة ثانية، "على طريق القدس"، فيما إسرائيل، في هذه الحالة، ووسط مزايدات حربية على كل المستويات السياسية فيها، تفضل أن "تعض على الجرح" وتذهب الى حرب جديدة بهدف قطع السبابة والوسطى، من أصابع "حزب الله" الخمس!