جريدة الجرائد

أوبنهايمر... مشهد ثانوي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

في فيلم عن سيرة روبرت أوبنهايمر، عالم الفيزياء الفذّ المكلف إدارة مشروع مانهاتن لإنتاج قنبلة نووية، مشهد يجمعه والجنرال ليزلي غروفز، العسكري الأميركي المكلف الإشراف على المشروع من جهة المؤسسة العسكرية. يشرح العالم للجنرال حقيقة محبطة. الفريق العلمي الأميركي قدَّر أن النازيين متقدمون في السباق النووي بنحو 18 شهراً، كما أنَّ لديهم فيرنر هايزنبرغ، أفضل علماء الفيزياء الكمية في العالم. «في سباق مباشر، سيفوز الألمان»، يقول أوبنهايمر. ويضيف: «لدينا أمل واحد فقط».

صراع التسلح النووي في تلك النقطة يشبه صراع الجبابرة وآلهة الأولمب في الأساطير الإغريقية. حرب كونية سيتحدد على أثرها ترتيبات العالم، والنتيجة؛ السيادة أو الهلاك. لا بد أنَّ الأمل الذي يتحدث عنه أوبنهايمر أمر جلل لكي يحسم معركة مصيرية كتلك. يسأل الجنرال، «ما هو؟» فيأتي الرد المفاجئ: «معاداة السامية».

هتلر وصف الفيزياء الكمية في حديث إلى أينشتاين بأنَّها «علم يهودي». ويأمل أوبنهايمر أن يكون هذا سبباً في عدم تقديم هتلر الدعم الكافي لهايزنبرغ والفريق العلمي، مما يمنح الفريق الأميركي فرصة للتفوق إذا استطاع تجميع أفضل العقول العلمية الأميركية للعمل معاً. يعوِّل أوبنهايمر على أنَّ تتغلب كراهية هتلر العمياء على سعيه إلى النصر.

وبالفعل تحقق أمل أوبنهايمر، وانتصر الأميركيون وخسر الألمان رغم أنهم كانوا الأفضل علمياً، بسبب هذه الهفوة الدرامية التي بدت بسيطة.

مجتمعاتنا تصنِّف موقع السماحة من القيم السياسية بوصفها خُلقاً ثانوياً على أفضل الأحوال. من السهل رفع شعارات القوة، والعظمة، والعداوة، والاتفاق عليها. لكنَّ السماحة غائبة عن قائمة الأولويات، وإنْ حضرت لا تتجاوز الألسنة. لا يعبأ بها التشريع القانوني، ولا تهبّ لها حناجر النضال. وتستهجن أي ناقد لفكرة خاطئة موروثة. كأنما المجتمع آلة تعتقد أن التشاحن بين تروسها أفضل من السلاسة في الحركة، وأن استخدام زيت التشحيم تفريط في التزام قواعد الميكانيكا.

الدول الوطنية الحديثة في معظمها دول متعددة الثقافات والأديان. وتحتاج في سباقها إلى استخدام جميع إمكانات الجسد المجتمعي. السماحة ضرورة لخلو جسم المجتمع من أمراض التآكل الذاتي. لكنها على ضرورتها تصطدم بمجموعة من القناعات والشروط المسبقة التي تَحول دون انتقالنا إلى دولة حديثة. تتمحور حول خدمة المواطن لا الدين ولا العرق ولا الطائفة ولا الجماعة. والنتيجة أن مجتمعاتنا امتلكت صفات الدولة الحديثة من حدود وعَلَم وعضوية في المنظمات الدولية، وامتلكت تكنولوجيا حديثة حسب قدراتها المادية، وامتلكت مشاريع طموحة، لكنها متعثرة في الانتقال إلى الحداثة من حيث المفاهيم الاجتماعية.

حين يتطور المعمل في قدراته، ويظل المجتمع متخلفاً في مفاهيمه، يدور حول نفسه في دوامة من صنعه، تشده إلى أسفل. يشبه انطفاء النجوم ودخولها في دورة مفرغة من تناقص الكثافة والتزاحم والانكماش بالجاذبية، حتى تنفجر من الداخل. وهذا ما حدث في ألمانيا. وفي النهاية، أضر تعصب هتلر بلاده أكثر مما أضر غيرها.

لكن فرط السماحة أيضاً مُضِرّ، وهذه مشكلة تؤرق المجتمعات الغربية حالياً، بحثاً عن إجابة للسؤال الصعب: كم من السماحة ينبغي أن نقدم للمتعصبين؟ وكم من التعصب يمكن أن نتسامح معه؟

المفكر والفيلسوف كارل بوبر تطرق إلى هذا في حديثه عن «مفارقة التسامح». حيث التسامح غير المحدود قد يؤدي في النهاية إلى اختفاء التسامح نفسه إذا لم يكن المجتمع مستعداً لمواجهة القوى المتعصبة. يجب ألا تتحول السماحة إلى وجاهة يأنف المجتمع الراقي أن يتنازل عنها، يجب أن يكون مستعداً لعدم التسامح كما للتسامح، كلٌّ في موضعه. إذ السماحة، على جمال الكلمة، مجرد اختيار. وفي مواجهة التعصب، كما في مواجهة مُعْتَدٍ مسلح، على المجتمع أن يبحث في سلته القيمية عن اختيار يلائم الخطر. وألا يسمح بأن يكون انفتاحه ثغرة استراتيجية يستغلها المتعصبون متعمدين. هؤلاء المتعصبون يتحدثون عن السماحة أيضاً، ربما يتحدثون، أفراداً ومجتمعات، عن السماحة أكثر من غيرهم، ويستغيثون باسمها تَلَهُّفَ مختنقٍ إلى الهواء. لكنهم يطلبون منها المدد في غير موضعه. أحياناً لتثبيت الخطوة الأولى نحو فرض سيطرتهم، أو لتبرئة مجرم طعن فتاة لم تختره، أو تخليص متحرش من يدي ضحية، أو لتمرير دوافع إرهابي. تلك مشكلة أكبر من فرط التعصب وفرط السماحة. هذا عُصاب قيمي، وخلل في الميزان. والمجتمع الدائخ لا يتقدم إلى الأمام بكفاءة.

الثقافة قدرة على التمييز بين الخبيث والجيد، وهذا شرط أساسي في إدراك قيمة الفرصة إذا سنحت، وفي الاختيار بين الطرق إن افترقت. وأسوأ المجتمعات ما ابتُذِلَت فيه الحكمة واحتار الحكيم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف