جريدة الجرائد

انتخابات أوروبا ومرارة الحصاد

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

أحمد محمود عجاج

فجأة تحدث الإعلام عن انتصار ساحق لليمين المتشدد، كأن الأمر غير متوقع، والأغرب تصويره الكارثي لوصول اليمين، وليس لشرح آيديولوجيته المتغيرة، والأسباب التي غذَّته وحوَّلته إلى تيار كبير يمنحه الناخبون أصواتهم؛ هذا اليمين إذا لم يُفهَم حقاً فسيصبح سائداً في الغرب، ومعه ستتغير أوروبا والعالم. ثمة أسباب كثيرة وراء بروزه؛ لكن ثمة عناصر أساسية تستحق الانتباه: الشخصية القيادية، والمسار الاقتصادي، والهوية الثقافية.

أولاً، الشخصية القيادية مهمة جداً في قيادة الأمم، ولعل مكيافيلِّي كان محقاً عندما تحدث عن ركنين أساسيين للقيادة: المجازفة والحكمة؛ فالمجازفة تُحول القائد لرجل شجاع غير هياب، والحكمة تؤهله لدراسة تبعات المجازفة والتعامل معها إيجاباً أو سلباً. ويجد الناظر في قيادات أوروبا أنها تفتقدهما، وأصبح دارجاً في الغرب انقياد القادة للجماهير، فيربطون قراراتهم صباحاً وسياساتهم مساء باستطلاعات الرأي؛ هذا السلوك حولهم إلى إداريين، وليس إلى قادة كبار يوحون بالثقة، وتتبعهم الجماهير مطمئنة. أما القادة الحقيقيون فمثل مارغريت ثاتشر التي عندما أخبرها مستشاروها أن استطلاعات الرأي تؤكد أن مسارها الإصلاحي لا يحظى بتأييد، قالت بثقة: «أنا هنا لأقود الناس لا ليقودوني»، ولهذا مضت في إصلاحات مريرة، وخاضت حرباً ضد الأرجنتين على الرغم من المعارضة الشديدة، واستطاعت أن تخرج منتصرة في كل معاركها.ثانياً، المسار الاقتصادي الليبرالي يبدو معتلاً في أوروبا، بينما القادة يصرون بعَمَى على اعتماده كَحَلِّ أوحد؛ هذا ليس ناتجاً عن قناعة بنجاعته؛ بل لأنه أمسك بخناق القادة، وبتصورات الناخبين؛ فصناعة القرار السياسي انتقلت تدريجياً من السلطة السياسية (الحكومة والبرلمان) إلى المؤسسات والشركات الاقتصادية، وصناديق المال، وعليه: لا يجد الناخب سوى الانصياع؛ لأن منظومة الاقتصاد، وبأداة الدولة، طوقت حريته ونشاطه، وغبَّشت رؤيته. فالاقتصاد الليبرالي (المتغول) قزَّم الدولة، وحول أصحاب المال ومالكي الشركات الكبرى إلى ناخب قوي جداً، تترتب على معارضته كوارث كبرى على السياسي والناخب. كمثال: فإن رئيسة وزراء بريطانيا السابقة ليز تروس المؤمنة بالليبرالية المتغولة، أسقطتها السوق فوراً؛ لأنها وضعت ميزانية هدفها الاستدانة من أجل الإنفاق العام، ودون خطة لتسديد تلك الديون؛ لأن السوق تكره الاستدانة إذا كان هدفها الإنفاق على الناخب؛ والناخب لكي يشعر بالرفاهية على الدولة أن تستدين لتنشيط الاقتصاد، وخلق فرص عمل، وتحسين البنية التحتية؛ والسوق لا تمانع؛ إنما على الناخب أن يسدد الفاتورة بضرائب تفرضها الدولة، والسياسيون يخشون ذلك لأن الناخب لن يصوِّت لهم؛ والسياسيون أكثر ميلاً للسوق لأنها هي الممول لحملاتهم الانتخابية، وتوفر لهم فرص عمل مجزية عند خروجهم من السلطة، ولا عجب أن تكون لها الأولوية على الناخبين تحت شعار حماية الاقتصاد من أجل المواطن؛ النتيجة كراهية شديدة للسياسيين، وضياع الثقة بهم، وتوجه الناخبين لمن يعدهم بالجنة، ولو كان يسارياً أو يمينياً متطرفاً.

ثالثاً، الهوية الثقافية هي مدماك مهم في تركيبة اليمين المتشدد؛ فالضيق الاقتصادي، وغياب القادة، رافقتهما هجرة لبلدان أوروبا بهويات مختلفة، وأديان متنوعة، وهذا أيقظ في الوعي الأوروبي المخاطر على الهوية واحتمال فقدانها؛ ومما عزز ذلك تبني اليسار نظريات ناقدة للتاريخ الأوروبي، ونافية للعلو الثقافي، وداعية إلى محاسبة تاريخ الإمبراطوريات الأوروبية؛ هكذا وجدت أكثرية الناخبين أن بلادهم مختطفة، وتاريخهم تلوث، والهجرة إلى بلادهم لا تتوقف، والسياسيون لا يستطيعون دفعها، ولا يبالون بالهوية والثقافة؛ لذلك رفع اليمين المتشدد شعار الهوية، وعظَّم مخاطر الأجانب، وركَّز على المسلمين بالذات على اعتبار أن هوياتهم ناقضة للهوية الأوروبية الحضارية. ومما فاقم هذا الخطر تصديق المسلمين المهاجرين أنهم يعيشون في ديمقراطية مثالية، دونما استيعاب أنهم أقلية قد تُستهدف بلحظة ما، فعمدوا بحماقة إلى التمسك أكثر بهوياتهم، تحدياً وإثباتاً للوجود؛ وهذا أدى إلى زيادة جرعات الهوية عند اليمين المتطرف، فأصبح يتحدث دون حياء عن خطر الإسلام، ويستصحب صراع الحضارتين الإسلامية والمسيحية لتعزيز رصيده الانتخابي.

هذه العناصر الثلاثة لها دور بارز في صعود اليمين المتشدد، وليس مستغرباً أن يتوسع نفوذه أكثر فأكثر. ولوقف زحفه لا بد من قيادة جريئة، وأخلاقية وحكيمة، وكسر العلاقة السامة بين السوق والسياسيين، وتحويل الاقتصاد لخدمة الكثرة وليس القلة؛ ولا بد من تَفَهُّم مسائل الهويات والتقاليد، واقتناع الأقليات بأنها في بلدٍ اختارته طواعية ليكون لها مستقراً نهائياً، وأن تدرك أن الديمقراطية (العملية) لا تسمح لها بأن تعيش بجسد في مكان وقلب في مكان آخر.

ماري لوبان وغيرها رفعوا شعارات تكبير دور الدولة، وتحقيق رفاهية المواطن، وحماية هوية أوروبا الحضارية، فنالوا التأييد من الناخبين، وعلى معارضيهم -قبل فوات الأوان- سحب تلك الأوراق من أيديهم، وإلا فإن المستقبل سيكون مُظْلِماً والحصاد مُرّاً.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف