دراما فرنسية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
من ضمن التعريف الأرسطي للدراما، هناك المفاجأة ثم التحوّل في الموقف من حالة إلى نقيضها. وما حدث في فرنسا، خلال الجولة الثانية من الانتخابات النيابية، في الأسبوع المنصرم، يُعدُّ دراما واقعية متميزة، وليس تمثيلاً على خشبة مسرح.
استطلاعات الرأي العام، هذا العام، كان حسنُ الحظ حليفها، في عديد من مناطق العالم التي شهدت إجراء انتخابات. وكانت توقعاتها صحيحة أو أقرب إلى الصحة، إلا في حالتين؛ الأولى في الهند، حيث تنبأت بفوز حزب رئيس الحكومة مودي ناريندرا بأغلبية برلمانية غير مسبوقة، فخسر أغلبيته، واضطر للدخول في ائتلاف حكومي مع حزبين صغيرين، للمرّة الأولى بعد 10 أعوام. في الحالة الثانية، فشلت الاستطلاعات في فرنسا في تقديم تنبؤ أقرب إلى الواقع. ومن الممكن تبرير فشلها في الهند؛ لأنَّ القوانين الانتخابية الهندية تمنع الاستطلاعات، وبالتالي، تمت الاستطلاعات عن بُعد وبخجل، واعتمدت المؤسسات الغربية المختصة على ما كان يصلها من نتائج استطلاعات قامت بها مؤسسات صغيرة محلية. وفي فرنسا، تعرضت الاستطلاعات لنوع من التضليل، بناء على نتائج الجولة الانتخابية الأولى. ووفقاً لذلك وصلت إلى قراءة خاطئة في تكهناتها بالجولة الثانية.
المسافة الزمنية بين الجولتين الانتخابيتين الفرنسيتين كانت أسبوعاً واحداً لا غير. لكن على قول البريطانيين: «أسبوع في السياسة زمن طويل». وخلاله، تمكّن حزب الرئيس ماكرون وحلفاؤه وأربعة أحزاب يسارية من التحالف انتخابياً ووضع تكتيك انتخابي سهّل لهم، وعلى عجل، وضع متاريس عديدة تحول بين حزب مارين لوبان اليميني المتشدد «التجمع الوطني» وبين الوصول إلى «قصر ماتينيون» مقر رئاسة الحكومة.
الدراما الفرنسية، يوم الأحد الماضي، بدأت مبكراً. وانقسمت ميادين باريس وشوارعها إلى جبهتين متقابلتين. وتولَّت القنوات التلفزيونية نقل الحدث أولاً بأول. على الجبهة الأولى كان أنصار اليسار. وعلى الضفة المقابلة كان أنصار اليمين. وفي «المابين» استعدّ 5000 من قوات مكافحة الشغب لمنع التصادم وردع المشاغبين.
الجبهة الأولى كانت تنتظر النتائج للتظاهر والشغب توقعاً لانتصار اليمين. والجبهة الثانية كانت تستعد للاحتفال بنصر موعود. في آخر المساء حدثت الدراما، بدخول عنصر المفاجأة لدى ظهور النتائج، ثم التحوّل من الحالة إلى نقيضها. فانقلب مأتم اليساريين إلى فرح، وعرس اليمينيين إلى ترح.
الدراما الفرنسية لم تستغرق وقتاً طويلاً، بدأت وانتهت في اليوم نفسه. وتلك ميزة تُحسب لها. إلا أنّها لم تكن كاملة؛ بمعنى أنَّ المتاريس، التي صممتها ووضعتها في الشوارع المفضية إلى «قصر ماتينيون» أحزابُ اليسار واليمين المعتدل، نجحت في إيقاف حزب «التجمع الوطني» من الوصول إليه، وفي الوقت نفسه لم تتمكن هي أيضاً من دخوله؛ إذ لم يحصل أي من الكتل الثلاث على أغلبية تمنحه حق الدخول ورئاسة الحكومة، وهذا بدوره يفضي بفرنسا إلى الدخول في متاهة فوضى أنفاق سياسية لم تألفها، تسبِّب الدوار السياسي، وتقترب بها كثيراً من المتاهات الائتلافية السياسية في إيطاليا التي نشهدها عقب كل انتخابات. وعلى كتفي الرئيس إيمانويل ماكرون وقعت أعباؤها، وزادت في ثقل حمولة ما يحمل من أعباء، مضافاً إليها فقدان شعبيته بين الناخبين، وتخلي أنصاره عنه. وعليه الآن البحث عن حلّ مُرضٍ. المشكلة أن الحلول، التي من الممكن وصفها بالمُرضية، لا تتوفر إلا بالجلوس مع قادة أحزاب اليسار المعتدل، ممن لا يحمل لهم في قلبه سوى الكراهية والمقت. أضف إلى ذلك، أن عليه إيجاد حلّ يفضي إلى تعيين رئيس حكومة قبل حلول موعد ألعاب الأولمبياد؛ أي قبل أسبوعين.
في هولندا، على سبيل المثال، لعبة الائتلاف الحكومي بين عدة أحزاب تستغرق شهوراً. والحال في إيطاليا ليست بعيدة عن ذلك. واللعبة الائتلافية غير معروفة في فرنسا، ولا محبوبة. وعلى الرئيس ماكرون أن يحلَّ بأسنانه معضلة عقدة صنعتها يداه. وكان الهدف منها، حسب قوله، إجلاء الضباب، فإذا بالضباب يستأسد ويستحوذ على كل سماء فرنسا. وإذا كانت فرنسا قد نجت بهذه الانتخابات الخاطفة من مغبة الوقوع في يد اليمين المتشدد، إلا أنَّها، من جهة أخرى، دخلت في نفق آخر، ولا تبدو له مخارج واضحة. الأمر الذي دفع صحيفة «الباريسي» الفرنسية أن تنشر على صدر صفحتها الأولى، في اليوم التالي للانتخابات، عنواناً كبيراً بصيغة سؤال، وكأنها تنطق على لسان كل الفرنسيين: «والآن ماذا نفعل؟».
صحيح أن حزب مارين لوبان لم يصل إلى رئاسة الحكومة، هذه المرّة، إلا أنّه، من ناحية أخرى، زاد عدد مقاعده في البرلمان 55 مقعداً. وبدأ الاستعداد لخوض غمار معركة انتخابات الرئاسة في عام 2027. وليس أمام خصومه من اليمين المعتدل واليسار، منذ الآن، سوى المباشرة، وعلى وجه السرعة، في بدء تشييد السدود، التي تحول بينه وبين الوصول إلى قصر الإليزيه.