جريدة الجرائد

«العمال» البريطاني بين الديمقراطية والفشل؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الديمقراطية الأوروبية في خطر، ليس لمواجهتها عدواً خارجياً، بل بسبب نزيف داخلي ظهرت بوادره بجلاء عقب الانتخابات البرلمانية في بريطانيا، والانتخابات الفرنسية، وانتخابات برلمان الاتحاد الأوروبي. الجامع المشترك بين هذه الانتخابات هو فقدان الثقة بالديمقراطية وعجزها عن ضمان رفاهية المواطن الأوروبي. الروائية البريطانية زادي سميث، نقلت هذا العجز بهذه الكلمات المعبرة: كنت أرى اندهاش الأميركيين كلما حدثتهم عن الطبابة المجانية في بريطانيا، والتعليم الجامعي المجاني، والرعاية الاجتماعية المجانية، وكانوا يردون: هذا بلا مقابل!

أصبح البريطانيون يحنون إلى زمن ولى، بعدما تردى وضعهم الاقتصادي، وتناقصت الرعاية الاجتماعية، لدرجة أن نسبة الفقر عند الأطفال وصلت إلى 34 في المائة في شاسترفيليد، ثاني أفقر مدينة بريطانية؛ هذا سببه بالذات السياسة الاقتصادية الليبرالية التي أغلقت المصانع، والمناجم، ثم نقلها لخارج بريطانيا بحثاً عن العمالة الرخيصة، وكذلك الانحياز لقطاع البنوك ورفع القيود عنه؛ مما أدى إلى أزمات مالية أفقرت شرائح كبيرة من المواطنين، وهزت مالية الدولة، والتغافل عن اتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء ثم لوم الفقراء، واتهامهم بالكسل. وبدراسة بسيطة للأصوات الانتخابية البريطانية، نرى أن أكثرية وازنة منها صوّتت للمرة الأولى لحزب الإصلاح اليميني المتشدد، المعارض للهجرة، والمدافع عن التقاليد، والحضارة البريطانية؛ بذلك أصبح لدى هذه الشريحة حزب تمنحه أصواتها، وسقطت مقولة مهندس حزب العمال، الوزير الأسبق ماندلسون، بأن ليس أمام هؤلاء ملجأ سوى حزب العمال. وفعلاً لم يفز نواب حزب العمال في مناطق الشمال البريطاني المهمش إلا بأكثرية لا تتعدى المئات، بعدما كانت بالآلاف؛ هذا يعني أن معظم نواب حزب العمال سيجلسون في البرلمان بدعم ثلاثة من بين كل عشرة ناخبين، والفضل بذلك يعود لنظام الحزبين الانتخابي غير العادل والرافض للنظام النسبي؛ لذلك نال حزب العمال 411 مقعداً من أصل 650 بينما نسبة التصويت له بلغت 34 في المائة، ونال حزب الإصلاح المتشدد 5 مقاعد مقابل تأييد 14 في المائة، ونال حزب الديمقراطيين الأحرار 72 مقعداً مقابل نسبة 17 في المائة من أصوات الناخبين. هذا يفسر لماذا خسر حزب الإصلاح المتشدد، ولماذا حصد حزب العمال ثلثي المقاعد رغم قلة ناخبيه.

يدرك زعيم حزب العمال هذا النقص الديمقراطي؛ ولهذا أكد في خطاب النصر أن المنصب السياسي ليس امتيازاً، بل مسؤولية وواجب، وخاطب الذين لم يصوّتوا له احتجاجاً على سلوكيات السياسيين بأنه سيكون خادم الشعب وليس سيدهم، وناشدهم أن يحكموا على أفعاله وليس أقواله. هذا يمثل اعترافاً بأن فشله في تحسين الأوضاع، واسترداد الثقة بالسياسيين سيعبّد الطريق أمام وصول اليمين المتطرف للسلطة. وكذلك دليل على أن حزب العمال سيعود لجذوره كمدافع عن العمال والطبقة الوسطى بعدما أصبح اليمين المتطرف ناطقاً باسم الفقراء والطبقة الوسطى، ليس في بريطانيا بل في فرنسا وغيرها؛ فمن كان يتصور أن تتحول ماري لوبان (العنصرية) إلى اشتراكية وتحصد التأييد في مدن كانت حكراً على الأحزاب اليسارية. فالأمين العام لنقابة العمال الفيدرالية في فرنسا، صوفي بينيه، أكدت أن نسبة كبيرة من الطبقة العاملة صوّتت لماري لوبان إيماناً بها لأن اليسار تخلى عن شعاراته واستسلم لرأس المال، وتعايش مع اتساع اللامساواة في البلاد، ودعت اليسار إلى أن يكون ممثلاً للعمال. هذا التحول في بريطانيا وباريس تكرر في ألمانيا بفوز حزب ألمانيا البديل اليميني المتطرف المدافع عن المهمشين وثقافة البلاد من خطر الغرباء المهاجرين، وتكرر في هولندا وإيطاليا وغيرها.

هذه التحولات ليست عرضية إنما تكشف عن تغير بنيوي في المجتمع الأوروبي، وسببه عاملان: اقتصادي، وثقافي. يتمثل الاقتصادي باقتناع المواطن أن العولمة الرأسمالية أفقرته، وان أصحابها اغتنوا على شقائه، ولم يلتفتوا لمجتمعاتهم وتنميتها، ويتمثل الثقافي بتجاهل خطر المهاجرين على الحضارة الأوروبية جرياً وراء يد عاملة رخيصة؛ هذان العاملان أدّيا، كما يقول الكاتب بيتر ماير في كتابه «حكم الفراغ»، إلى فقدان «الأحزاب الغربية الاهتمام بالعامة، وفقدان العامة الاهتمام بالأحزاب السياسية». وقد تولّد عن ذلك فراغ في الساحة السياسية سارعت لملئه الأحزاب اليمينية واليسارية المتشددة. وتكمن المشكلة في أن اليسار لديه حل اقتصادي ولا يملك حلاً للثقافي، واليمين المتشدد لديه حل للثقافي وليس للاقتصادي؛ والسبب أن اليسار معولم ثقافياً، بينما اليمين معولم اقتصادياً؛ ولهذا سيفشلان. هذا سيدفع اليمين المتشدد لاستغلال العامل الثقافي لتبرير فشله، واليسار لاتهام اليمين بالعنصرية؛ مما سيشكل وصفة حتمية لصراع مرير، إذا لم ينجح حزب العمال، وسيتكرر المشهد الأميركي ذاته في أوروبا، وعندها سيضحك زعيمان: الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جينبينغ ويقولان بشماتة: ألم نقل لكم إن الديمقراطية هالكة والحضارة الغربية آفلة؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف