كما في زمن ابن بطوطة عالمنا يحترق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
في القرن الرابع عشر، وبعد عودته الأولى إلى طنجة، وصف ابن بطوطة عالماً يحترق. تنهار فيه القيم، وتتداعى الممالك والأمصار، وتشتعل الحروب بين المغول الترك والفرس، والفرنجة والمسكوف، وينتشر الطاعون في مصر والشام.
وقتها، كانت أوروبا تستجر نسغ حضارة ممالك العالم، لتندفع في ثورتها الصناعية العلمية العظيمة!
وخلال سرده لسفارته بين الأمم، وصف ابن بطوطة بدقة صعود العصبيات والفوضى والقلق والخوف الاجتماعي، في عالم تنهار فيه المرجعيات والمؤسسات. وما كان ينقص كتاباته، كي تصير بحثاً سوسيولوجياً راهناً في صعود الشعبوية والاستبداد، إلا استخدام بعض مصطلحاتنا الحديثة.
ونحن ننظر لعالم اليوم المضطرب، لا يمكن تفادي استذكار حريق العالم زمن ابن بطوطة. فبحسب استطلاعات مؤسسة IPO البريطانية عن 28 دولة متقدمة، تسود السوداوية عالمنا اليوم؛ إذ يعتقد 58 في المائة من مواطني هذه الدول أن مجتمعاتهم تتراجع، ويعتقد 61 في المائة أن نظامهم السياسي معطل، ويعتقد 67 في المائة أن النخب السياسية والاقتصادية تدير ظهرها لهم، ويقول 63 في المائة منهم إنهم بحاجة لزعيم قوي. وبالمقارنة مع بداية القرن زادت الأدبيات والمواقع التي تبث التشاؤم والحقد 200 مرة. لذلك فالمراهقون اليائسون 45 في المائة. وثلثهم يعيش وحدة قاتلة ودون حب حقيقي. وحين يصبح الشباب خائفاً وغاضباً وحزيناً ومتشائماً، يصير أكثر بخلاً، وأقل عطاءً للآخرين، وأكثر عنفاً وكراهية.
يستوي في ذلك الشعبويون اليمينيون واليساريون الذين يحتشدون في مدٍّ عالمي عارم. يصور اليمين البلاد على شفا الكارثة: «هذا البلد على وشك الدمار الكامل». ويصور اليسار عالمه المليء بالتشاؤم والاكتئاب والغضب و«الثورة».
وما تثبته الاستطلاعات، هو أن صعود الشعبوية والاستبداد ليس مجرد انعطاف في المزاج السياسي، بل ناجم عن غرق الشباب في الإحباط والركود الروحي (الحاجة لمستبد منقذ وعادل). عندئذ يصبح التطرف السياسي بضاعة يعرضها القادة المتطرفون، بوصفها شكلاً من أشكال العلاج الاجتماعي.
تدل الأبحاث على أن الشباب الذين يشكون من الوحدة والعزلة في حياتهم هم أكثر عرضة بسبع مرات للانخراط في التطرف السياسي، بل نجدهم يصعدون قمة التيارات المتطرفة، فالتطرف السياسي يزودهم بالهدف، فيما يبدو حلاً لأزمتهم النفسية، وتفريغاً لحنقهم، وانتقاماً من الآخر. إنها آلية تعويضية لمجابهة الإحباط والشعور الوهمي بالكفاية النفسية. فثمة حرب بين الخير والشر، يمكن أن تمنح الشباب معنى وانتماءً.
في هذه الأيام، لا يتطلب الانخراط في «النضال» العنيف المتطرف الذهاب للإضراب، ولا صعود الجبال في حرب العصابات، بل يكفي أن يجلس الشاب ساخطاً أمام شاشة الكومبيوتر، وينخرط في العنف والتطرف المجتمعي، لعل ذلك يملأ فجوته الروحية الضاغطة، ليصير العنف السياسي إدماناً يرطب الشفاه، ولا يشفي الغليل قط.
بحسب الباحثين الاجتماعيين والمشرعين الدستوريين، لا يمكن اعتبار القاعدة الأخلاقية المؤسسة للدولة مجرد عقد اجتماعي، يمكن تفكيكه سياسياً، بل يفترض أن يكون عهداً اجتماعياً يرتقي فوق السياسة والديمقراطية، ليصبح عهداً للهوية والقيمة العليا للدولة الأمة. هذا العهد أشبه بالبديهيات الرياضية التي تسبق وتعلو على الرياضيات ذاتها وفرضياتها ونظرياتها، ومن دونها لا يمكن إثبات أي شيء.
ينسج هذا العهد قطبة، قطبة، في روح المجتمع والأمة. وحين يسقط تسقط معه روح الأمة وعهود الحق والانتماء، وتسقط الهوية. لكن الأهم أنه عندما يسقط هذا العهد تسقط قاعدة الأمان والتضامن المجتمعي، لتصعد الفاشية والشعبوية والاستبداد على جثتها. وبغض النظر عن التدين والإيمان، تشكل هذه القيم البعد الثقافي والروحي للأمة، بل هي الوعاء الذي تسكب فيه قيم الحرية والتضامن المجتمعي. ومن دونه لا دولة ولا أمة ولا ديمقراطية.
يقول أبراهام لينكولن: «إذا لم تكن العبودية خاطئة، فلا شيء خطأ». ومع كل «استباحة لمنظومة العدالة والقيم، وتراخ في مرجعية الخطأ والصواب يصبح كل شيء مستباحاً»، بدءاً من الحب ووصولاً للوطن. ليفقد الشباب أرضية الأمان، وينعزل ويتطرف.
وفوق ذلك تنمو ظاهرة أكثر خطورة؛ إذ تشير الدراسات إلى أن فرصة أطفال الطبقات الفقيرة في الحصول على الدبلوم هي أقل خمسين مرة من فرصة الطبقة المتوسطة والعليا. لينشأ لدينا تقسيم اجتماعي جديد يزيد يأس الشباب. إنه تقسيم بين من يعلمون ومن لا يعلمون. بين من لديهم شهادات عالية ومن لا يملكونها.
نعم، يقتل التطرف الليبرالي، الليبرالية ذاتها. وبحسب مسوح القيم العالمية، ينشأ نوع من خصخصة القيم المجتمعية، حيث يتحرك الشباب جسدياً وروحياً، دون مرجعية ولا هدى. وعلى هذه الأرضية يزرع الشعبويون والمستبدون قيمهم البديلة التي تدعي تقديم طريق بديل للخلاص: «ما عليكم إلا أن توصّلوني للسلطة وسأعيد النظام لعالمكم»، و«لروحكم».
مجابهة الشعبوية هي التحدي الأخطر في العقد الراهن، وإلا فإنها، من جديد، حريق لا ينتهي!