دمشق العائدة على مرحلتين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كلما قرأت شيئاً عن رغبة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في لقاء الرئيس السوري بشار الأسد، تذكرت أحمد داود أوغلو، وزير خارجية تركيا رئيس وزرائها الأسبق، الذي كان نجماً سياسياً في سمائها لسنوات.
كان أوغلو قريباً من إردوغان، وكانا رفيقين في العمل السياسي، وكان يوصف بأنه «فيلسوف حزب العدالة والتنمية»، الذي لا يزال إردوغان يحكم تحت مظلته إلى اليوم.
ولكن جاء وقت افترق فيه الرفيقان بعد أن باعدت بينهما السياسة، واتجه أوغلو إلى التأسيس لحزب جديد يرأسه هو، وقد أسسه بالفعل وخرج الحزب إلى النور، وصار جاهزاً للمنافسة في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة.
ولكن صاحب «تصفير المشكلات» لم يأخذ معه نظريته عندما ذهب، وإنما بقيت من بعده نهجاً للرئيس التركي الذي أصبح يستوحيها كلما وجد نفسه مدعوّاً إلى النظر في علاقات بلاده السياسية مع دول الجوار وغير دول الجوار.
وتكفي نظرة عابرة على ما كان بين أنقرة وعدد من عواصم المنطقة من حولها قبل سنوات، وما صارت إليه الحال بينها وبين العواصم نفسها في هذه المرحلة؛ فمن قبل كان الخصام والتوتر العنوان لعلاقات الطرفين، ومن بعد انقلب الخصام إلى تعاون، والتوتر إلى علاقات طبيعية، وطوت تركيا الصفحة القديمة تماماً، وبدأت صفحة تبدو مغايرة كلياً لما كانت سياساتها الخارجية تمضي عليه في سنين مضت.
ومن بين دول الجوار المباشر وغير المباشر بقيت سوريا وحدها بعيدة عن متناول يد «نظرية أوغلو»، ومع مرور الوقت بدا إردوغان راغباً في ضم دمشق إلى بقية العواصم التي تولى هو «تصفير مشكلات» بلاده معها، عاصمةً من بعد عاصمة. ولكن العاصمة السورية تبدو من ناحيتها متحفظة في أي رد يخرج عنها، وتظهر كأنها تتدلل أو تتمنع عن الاستجابة لإشارات إردوغان. فأنقرة لا تتوقف عن إرسال عبارات من الغزل السياسي الواضح إلى دمشق، ولكن الأخيرة تتباطأ في الاستجابة وتحسب خطواتها، وعندما وجدت أن عليها أن تتجاوب، قالت إن أي تطبيع سياسي للعلاقات مع الأتراك تَلزمه عودة الأوضاع على الحدود التركية - السورية إلى ما قبل 2011.
وإذا كان الرئيس التركي يبدو في عجلة من أمر لقائه الرئيس السوري، فالأخير لا يرى داعياً إلى التسرع؛ لأن من شأن ذلك أن يجعل البلدين يقفزان فوق ما لا يجب القفز فوقه في علاقاتهما، فتصبح العلاقات العائدة واقفة بالتالي فوق أرض غير مستقرة.
وفي طريق عودته من قمة «حلف شمال الأطلسي» التي عُقدت في واشنطن يوم 9 يوليو (تموز) الحالي، كان إردوغان قد أبدى استعداده للقاء الأسد في تركيا أو في أي مكان، وكان قد قال للصحافيين المرافقين له على طائرته إنه كلف وزير خارجيته، هاكان فيدان، العمل على إتمام اللقاء، وإنه يرغب أن ينعقد في أسرع وقت ممكن.
ولأنه يعرف أن الولايات المتحدة وإيران لا يسعدهما التقارب التركي - السوري، فإنه راح يسترضيهما ويقول إنهما يجب ألا ينزعجا مما يسعى إليه، وإن إنهاء المعاناة السورية لا بد من أن يكون مما ينال تأييدهما ومباركتهما. وكان من المفترض أن يستضيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قمة تركية - سورية، ولكنه، لسبب غير مفهوم، أبعد نفسه عن الموضوع، وقال إن عقدها على الأراضي التركية ربما يكون أفضل.
وليس من المنطق في شيء أن يذهب الأسد إلى مثل هذه القمة بينما القوات التركية تحتل أرضاً في شمال البلاد، ولذلك؛ فإن دعوته إلى عودة الأمور على الحدود إلى طبيعتها قبل 2011 معناها أن تخرج هذه القوات ثم تلتئم القمة لا العكس، وإلا؛ فإن العلاقات تعود على غير أساس.
لقد جاء وقت كنا نتساءل فيه عما إذا كانت الأوضاع في شمال سوريا يمكن أن تعود إلى ما كانت عليه قبل ما يسمى «الربيع العربي»، ولم نكن ننتبه إلى أن من مبادئ الحياه الثابتة أن أوضاعاً مقلوبة فيها تصحح نفسها بنفسها، وأن مرور الوقت قد يكون نوعاً من العلاج، وأن ذلك يسري على الأشخاص، وأيضاً يجري على الدول. وقد حدث ذلك مع سوريا، وهو يحدث على مرحلتين؛ إحداهما حين عادت إلى جامعة الدول العربية في القمة العربية التي عُقدت السنة الماضية في السعودية. والأخرى ستكون عندما ينجح مسعى إردوغان.
صحيح أن الوقت لا يمر دون ثمن، وأن مرور ما يزيد على عقد من الزمان منذ هبوب رياح «الربيع» قد نال من سوريا الكثير جداً، لكن الأهم أن تعود سوريا التي عرفناها؛ لأن غيابها بوطأةٍ من أحداث ذلك «الربيع» قد جنى على المنطقة؛ ولأن في حضورها ما يعزز من فرص السلام في منطقة طال شوقها إليه.
إنني أفرق هنا بين الحكومة في سوريا، وسوريا نفسها بصفتها وطناً لكل سوري؛ لأن الحكومة التي تأتي إلى مقاعد السلطة تذهب عنها مهما طال بقاؤها، ولكن الوطن لا يذهب؛ لأنه إذا ذهب فهو في الغالب لا يعود.