بين الأم وولديها
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
في سنةٍ صعبة شحّ فيها الطعام وغلت الأسعار، طلبت الأم من ولديها الصغيرين، كان عمر أكبرهما تسع سنوات والأصغر ثماني، أن يقصدا محل بيعٍ بالجملة يبعد عن بيتهم نحو كيلومتر واحد، لشراء خمسة كيلوجرامات من السكر، لأن سعرها هناك أقل بخمسين ليرة من السعر الذي تباع فيه بالدكان الواقع في شارعهما.
بلغ الولدان المحل واشتريا خمسة كيلوجرامات السكر، وحمل أكبرهما الكيس. سار بضع خطوات فقط، فأحسّ بالإجهاد وجلس على الأرض متعباً، فالوزن بالنسبة له ثقيل. تنفّس الولدان بعمق ثم تعاونا في حمل الكيس ثانية، فتملك منهما التعب ثانية، وأدركا أنهما لن يستطيعا حمل الكيس للبيت، فتوجها نحو عربة تقف وحصانها على رأس الشارع، طالبين من صاحبها إيصالهما وكيس السكر إلى البيت. تفحص الرجل الكيس قبل أن يقول لهما: خمسون ليرة.
لم يجادله الولدان في أمر الأجرة. لا خبرة لديهما في الفصال، وحين وصلوا إلى البيت حمل الرجل الكيس على ظهره وصعد به إلى الطابق الخامس حيث تقع شقتهما. أخبر الولدان أمهما أن عليها أن تدفع له خمسين ليرة أجرة إيصالهما والكيس. في البداية حسبت الأم أن الأمر مزحة قبل أن تتيقن أن لا مزاح في الأمر، فدفعت للرجل الأجرة، وبذا لم يفرق مجموع المبلغ عن سعر الكيس في الدكان القريب.
وهو يحاول فذلكة الموضوع، قال الابن الأصغر بعد أن كبر في السن وغدا كاتباً، في رسالة إلى أمه: &"ما لم تدركيه حينها هو أنني وأخي كنا نعارض فكرة احتكار رأس المال. كنا نؤمن بضرورة توزيع رأس المال على أفراد الشعب. بدلاً من منح 300 ليرة بأكملها لصاحب الدكان، أعطينا تاجر الجملة 250 ومنحنا ال 50 المتبقية للحوذي. كانت تلك اللبنة الاولى لحركتنا المزدهرة، ولكن بسبب عدم اقتناعك بما فعلناه تهاوت حركتنا حتى قبل أن نبدأ. أنتِ السبب في اعتماد بلادنا على اقتصاد السوق المفتوح! انظري إلى أين وصلنا! لا شك أن ضميرك يؤنبك&".
هذا ليس سوى جزء من رسالة الابن إلى أمه التي أورد فيها حكايات أخرى مع أمه حمّلها دلالات لم يكن لا هو ولا أخوه يعيانها وهما طفلان، والرسالة هي محتوى قصة قصيرة بعنوان: &"تصفية حسابات&" للكاتب التركي صلاح الدين دميرتاش، تضمّنتها مجموعته القصصية &"سحر&" التي ترجمتها إلى العربية المترجمة العمانية ريم داوود، وسبق لنا أن وقفنا عند قصة أخرى في المجموعة نفسها، هي قصة &"وحيد كالتاريخ&"، وما هاتان القصتان إلا نموذجين على ثراء وعمق محتوى كل القصص التي حوتها المجموعة، مقدمةً رؤية فطنة للكاتب، بلغة سلسة أحسنت المترجمة القديرة إيصالها لنا.