آراء أم أحكام؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
كاتب التحليل السياسي ليس مطلوباً منه إصدار حكم بل تقديم قراءة تكون متماسكة ومقنعة ومحايدة
في الانتخابات الرئاسية الأميركية الماضية لعام 2020، كتبت مقالة هنا، قلتُ فيها إنَّ تلك الانتخابات ستكون الأخيرة للمرشحين الرئاسيين؛ بايدن وترمب، بسبب تقدمهما في العمر. وإنَّنا سنحظى بتنافس في الانتخابات التالية لها لعام 2024، بين مرشحين أصغر سنّاً وأكثر حيوية. لكن الأحداث سارت في مجرى مخالف لتكهّناتي. والسبب: لأنّي بنيت رأيي على أساس منطق يأخذ في اعتباره عامل السّن وتأثيراته المتعددة سلبياً على قدرات البشر العقلية والبدنية.
كُتّابُ التعليقات السياسية معرّضون للخطأ والصواب، وهذه حقيقة لا يختلف حولها عاقلان. وهم في حقيقة الأمر حين يخوضون في تحليل قضايا سياسية، فإنهم يدلون بآراء، يعلمون مسبقاً أنّها قابلة للنقاش، وللأخذ والرد، والرفض كذلك، وليست أحكاماً باتة قاطعة. تلك الآراء، القراءات، قد تصدف وتقترب من الحقيقة، وقد يجانبها الصواب، فهم يعيشون في عالم متغير، ومهمتهم رصد تحوّلاته ووصفها، والتنبؤ بتوجهاتها المحتملة، لكن الرياح قد تسير بشكل معاكس.
وبالطبع، لا يتساوى المعلقون في قدراتهم ومصداقيتهم؛ هناك فروق بين معلق سياسي وآخر. لكن كلَّما كان المعلق قريباً من مصادر الأخبار ودوائر صنع القرار ازدادت مصداقية تحليلاته. وأحياناً، يصير البعض منهم ناطقين غير رسميين للأنظمة السياسية في بلدانهم، وتحظى تعليقاتهم بالمتابعة والرصد، وبمصداقية واسعة، بسبب قربهم من دوائر صنع القرار على أعلى مستوى.
وما دعاني للخوض في هذا الموضوع هو أنني، في مقالة سابقة، تعرضتُ بالتحليل للموقف السياسي في أميركا عقب انسحاب الرئيس بايدن من السباق، في وقت يعدّه المعلقون متأخراً جداً، قد يعود بالخسارة على الحزب الديمقراطي في انتخابات شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وفي قراءتي للموقف، وصلت إلى خلاصة مفادها أن «خيول ترمب قادمة لا محالة»؛ بمعنى أن على دول العالم الإعداد للتعامل مع فترة ثانية للرئيس ترمب في البيت الأبيض.
تلك الخلاصة، كانت رأياً لا حكماً، ولم تكن تحت تأثير التعاطف مع ترمب، أو من باب الشماتة في المرشح الديمقراطي أيّاً كان، بعد انسحاب بايدن. بل هي قناعة أو رأي شخصي ومحايد في آن معاً، وُلد ونما تدريجياً، وتعرض لتعديلات وتصحيحات، عبر متابعة يومية متواصلة لما ينشر في وسائل الإعلام المختلفة من أخبار وتقارير، ومن خلال رصد لما يكتبه المعلقون في أميركا وخارجها، مضافاً إليهم متابعة نتائج استطلاعات الرأي العام أولاً بأول. وجميعها، في نظري، كانت تفضي إلى استنتاج يقضي بترجيح كفة ترمب انتخابياً على خصمه.
تلك الخلاصة أثارت انتباه بعض الأصدقاء، وخالفوني الرأي، وحجّتهم في ذلك أن ما كتبته يتجاوز الرأي، ويعدّ بمثابة إصدار حكم نهائي، ودليلهم أن وجود كلمة «لا محالة» في آخر العنوان يؤكد ذلك. فاجأني قولهم؛ لأن ما ذكروه لم يرد في بالي، وذلك خطئي. وفي ردّي عليهم، أوضّحُ أنّه من المهم لمن يخوض في كتابة رأي سياسي أن يكون على بينة مما يكتب وينشر، من خلال رصده للقضية التي يتعرض لها من كافة الأبعاد والجوانب، ما أمكن، وأنني وصلت إلى تلك الخلاصة في مقالتي آنفة الذكر، بناءً على ما تراكم لديَّ من معلومات، خلال الشهور الماضية. وأضرب مثلاً على ما حدث في الانتخابات البريطانية الأخيرة؛ إذ إنني كنتُ ضمن جمهرة كبيرة من المعلقين في بريطانيا وخارجها ممن أكدوا حتمية هزيمة حزب المحافظين، وفوز حزب العمال. ذلك الاتفاق في الرأي لم يأتِ جزافاً، بل بناءً على رصد ومتابعة دائمين، وعلى مؤشرات وحقائق أبانتها الأحداث، وعلى ما كان يصدر عن مؤسسات استطلاعات الرأي العام من نتائج أسبوعياً، وحالة الانقسام الواضحة في حزب المحافظين. وبالتالي، كان الرأي بانتصار العمال وهزيمة المحافظين مكتوباً بخط كبير على الحيطان ومرئياً بوضوح، إلا لمن لم يكن راغباً في القراءة، أو متظاهراً بالعمى. وكتابة تحليل سياسي يؤكد تلك الحقيقة، تظل في إطار الرأي، وإن بدا قريباً من إصدار حكم.
وحتى أوضّح أكثر، آخذين الفارق في الاعتبار، فإن القضاة في المحاكم يصدرون أحكاماً قضائية مبنية أساساً على آراء قانونية تتكوَّن لديهم تدريجياً من خلال اطلاعهم على ملفات القضايا، واستماعهم لآراء هيئات الدفاع والنيابة والشهود. ومن تلك الآراء يصلون إلى قناعة/ رأي بإصدار أحكام بالبراءة أو بالإدانة، ويحرصون على بيان الأسباب التي دعتهم إلى إصدار تلك الأحكام. ولأنهم قضاة، لا بد لهم من إصدار أحكام، بطبيعة الوظيفة التي يعملون بها. وأحكامهم ليست نهائية، وقابلة للطعن وللاستئناف؛ أي إنهم يخطئون ويصيبون.
أما كاتب التحليل السياسي فإنه ليس مطلوباً منه إصدار حكم أو ملزماً بذلك، بل المطلوب منه تقديم قراءة تحليلية هادئة لحدث سياسي ما، تكون متماسكة ومقنعة ومحايدة ما أمكن، وآراؤه تظل قابلة للأخذ والرد، والتعديل والتصحيح، وكذلك الرفض والاستهجان.