جريدة الجرائد

غربة الفكر

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

حسن مدن

وقف زكي نجيب محمود (1905 – 1993) أمام عبارات لا تَسِمُها البلاغة وحدها، وإنما عمق الدلالة، لأبي حيّان التوحيدي الذي عاش قبل أكثر من عشرة قرون. عبارات التوحيدي جاءت في كتابه «الإشارات الإلهية»، أما استشهاد زكي نجيب محمود بها فقد ورد في كتابه: «تجديد الفكر العربي»، ولعل الأنسب أن نبدأ بإيراد ما قاله التوحيدي، قبل أن نأتي على ما أراد محمود استنباطه من هذا القول.

يقول التوحيدي: «أما حالي فسيئة كيفما قلّبتها؛ لأن الدنيا لم تؤاتني لأكون من الخائضين فيها، والآخرة لم تغلب عليّ فأكون من العاملين فيها، (...)، فإلى متى نعبد الصنم بعد الصنم، كأننا حُمرٌ أو نَعَم؟ (وهما كما نرى مفردتا جمع لكل من الحمير والأنعام)، إلى متى نقول بأفواهنا ما ليس في قلوبنا؟ إلى متى ندّعي الصدق، والكذب شعارنا ودثارنا؟ إلى متى نستظلّ بشجرةٍ تقلّص عنا ظلها؟ إلى متى نبتلع السموم ونحن نظن أن الشفاء فيها؟».

أراد زكي نجيب محمود تشبيه غربة التوحيدي في زمنه بغربة الكاتب أو المفكر العربي المعاصر، في القرن العشرين وما سبقه أيضاً؛ كونه، أي كاتب اليوم، «واقعاً بين نارين، والقول هنا لمحمود، لا يدري كيف ينجو بنفسه منهما، فهو إذا نظر إلى أمام وجد ثقافة تعصف عليه أعاصيرها من الغرب، بكل ما تحمله من علوم وفنون وآداب ونظم سياسية وتيارات فلسفية، فيحسّ وكأنه الغريب الذي يبسط الكفين ابتغاء الصدقة، فإن أخذته الكبرياء الرافضة، وأشاح بوجهه عن زادٍ لم يكن له فضل في إنباته وإنضاجه وإعداده، لم يجد عندئذ إلا أن يلوي عنقه إلى الوراء ليأخذ زاده من مخلاة آبائه».

أفكار عدّة لا فكرة واحدة فقط يطرحها علينا ما قاله مفكرنا زكي نجيب محمود، في الشكل وفي المحتوى، فإن بدأنا بالشكل أما جاز لنا ملاحظة أن بلاغته، وهو ابن القرن العشرين، لا تقلّ عن بلاغة التوحيدي السابق له بعشرة قرون، لكنها، عند الرجلين، بلاغة حاملة لمحتوى عميق، فهي ليست بلاغة من أجل البلاغة، كدأب الكثيرين من المهووسين بها، أما في المحتوى فعلينا ملاحظة أن الرجلين يتناولان الشأن نفسه، رغم تبدل الزمان، ما يحملنا على الاستنتاج بأننا نراوح في الدائرة نفسها منذ قرون، غير قادرين على كسرها وولوج فضاءات أرحب، تأخذ بأمتنا إلى مسارات التقدم، وتحررها من الأسرين اللذين لاحظهما ابن القرن العاشر، التوحيدي، وابن القرن العشرين، زكي نجيب محمود؟

«غربة الروح بين أهلها» هو العنوان الذي اختاره زكي نجيب للفصل الذي تناول فيه الموضوع في كتابه آنف الذكر. ياله من عنوان بليغ في وصف غربة فكرنا عن مكانه وعن زمانه!.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف