الإنترنت شوَّه الأعمال الأدبية أم طوَّرها؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عبدالرحمن الحبيب
أصبح كل فرد لديه قواعده الشخصية الخاصة في الأعمال الأدبية، وتنحى دور الناقد الأدبي.. لقد فقد الناقد نفوذه الثقافي، على الأقل في الإنترنت.. عندما تكون آراء القراء وليس آراء النقاد أو الأدباء أو الأكاديميين، هي أساس تقييم الأعمال الأدبية بحيث أن الأكثر تداولاً بين العامة في مواقع الإنترنت أصبح يعد أفضلها؛ وعندما يحل المشاهير محل المثقفين والكُتَّاب المختصين، فما هو المتوقع لمستوى جودة العمل الأدبي والإبداعي عموماً؟ الافتراض النظري المسبق هو أن الأعمال الفاقعة المتواضعة والساذجة ستختلط مع الأعمال العميقة المبدعة وستضيع الجودة والاحترافية في خضم العدد الهائل من الخيارات المتفاوتة.
لا يبدو أن هذا الافتراض قد تحقق، فبعد مرور عقدين من سيطرة الإنترنت معرفياً على مستوى العالم في كافة المجالات ومنها الأدبي خاصة الرواية والقصة، ورغم سيطرة التوجه العام في انتقاء الكتب فما زالت الأعمال الكلاسيكية الكبرى والأعمال الحديثة العظمى تحظى بمراتب متقدمة في الإنترنت مثلما كانت في السابق قبل ظهوره عندما كانت مراجعات وتقييمات الكتب والتوصيات بها يقدمها النقاد والمثقفون في الصحف والمجلات.
في تيك توك يوجد ركن للكتب (BookTok) وهو تطبيق فيديو يقوم فيه المؤثّرون بتقييم الكتب ويحلون محل الحكام المعتمدين في الماضي.. وفي موقع Goodreads وهو موقع ويب يضم عشرات الملايين من الأعضاء، يقوم فيه الآلاف من القراء بتقييم الكتب ومراجعتها.. كما يسمح Rebind، وهو تطبيق في إصدار تجريبي الآن، لقراء الكتب الكلاسيكية باستخدام الذكاء الاصطناعي لطرح أسئلة على الخبراء حول النصوص (مجلة الإيكونيميست). في كافة هذه المواقع ستجد أن الأعمال الأدبية الرصينة في مقدمة القائمة، بل إن بعضها رغم أنها مفتوحة لمشاركة الجميع تمثِّل مواقع ثقافية راقية ومبدعة لا تقل عمَّا كان في الصحف والمجلات بالملاحق الثقافية وأقسام مراجعة واستعراض الكتب والأعمال الفكرية والأدبية والفنية.
لكن لا تزال هناك معضلة في الاختيار بين عدد هائل من الكتب المقترحة لقراءتها، حيث يوجد آلاف المنصات عبر الإنترنت، فمن يوصي بالأعمال المميزة أو المناسبة لميول الشخص؟ إحدى الطرق المقترحة للاختيار هي الانتقاء من قوائم أفضل الكتب، على افتراض أن الكتب التي تظهر في أغلب الأحيان تستحق القراءة فعلاً. هذا ما فعله موقع thegreatestbooks.org، حيث قام مبتكره، شين شيرمان، وهو مبرمج كمبيوتر في تكساس، بانتقاء أكثر من 300 قائمة للتوصل إلى اختيار قائمة من القوائم، والتي أطلق عليها، مع المبالغة، «أعظم الكتب على الإطلاق»؛ وتحتوي القائمة على أكثر من عشرة آلاف كتاب، مرتبة حسب عدد مرات ظهورها في القوائم المكونة.. وقد قامت الإيكونيميست بانتقاء أفضل خمسمئة كتاب وفرزها حسب العقد أو القرن من النشر، وسنة النشر، واللغة والطول.
باستعراض قائمة الخمسين الأوائل من الروايات، سنجد أنها لا تختلف عمَّا يُطرح من قبل النقاد والأكاديميين والأدباء، حيث سنجد روايات وقصص عظماء الروائيين التي ترجمت أعمالهم إلى عشرات اللغات، وكلها تقريباً ترجمت إلى اللغة العربية وكثير منها نالت أكثر من ترجمة عربية، مثل أعمال: جيمس جويس، جورج أورويل، دوستويفسكي، تولستوي، مارك توين، دانتي، ألبرت كامو، فرانز كافكا، تشارلز ديكنز، فرجينا وولف، فيكتور هوجو، مارغريت ميتشل، إرنست همنغواي ... إلخ، وعلى سبيل المثال نجد في أول القائمة رواية «مائة عام من العزلة» وهي تعد من أهم وأشهر الأعمال الأدبية العالمية قبل ظهور الإنترنت، للروائي غابرييل غارسيا ماركيز أحد الروائيين الأربعة من أمريكا اللاتينية الأوائل الذين أدرجوا في «البوم الأمريكي اللاتيني» الأدبي في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين.
لكن ثمة تساؤلاً: كيف لم تتأثر قائمة المبدعين والأعمال الأدبية العظيمة رغم سيطرة المؤثّرين والقراء في التقييم مع شبه غياب للنقاد في التقييم على مواقع الإنترنت؟ يبدو أن تأثير النقاد والأكاديميين والمثقفين موجود في المدارس والمعاهد والجامعات والمؤسسات الثقافية وقنوات التلفزة، فربما أن ما يطرحه هؤلاء يعمل على التأسيس الأولي لقائمة مراجع الأعمال الأدبية في عقول الدارسين فتظل في أذهانهم قبل غيرها من الأعمال المتواضعة أو المثيرة سريعة الزوال التي تلتمع فجأة في الإنترنت؛ فعندما يتوجه القراء ومحبو قراءة الروايات إلى مواقع الإنترنت من المتوقع أن أول ما يتبادر في أذهانهم هو ما تعلموه في دراستهم وقد تكون له الأفضلية في البحث والاختيار.
حسب موقع ستيفي (Siteefy) المتخصص في مواقع الويب، يوجد بالعالم ما يزيد عن مليار موقع إلكتروني (18 % منها نشط) وفي كل يوم يظهر أكثر من خمسين ألف موقع من منصات للتواصل الاجتماعي إلى مواقع التسوق والألعاب أو مشاهدة مقاطع الفيديو ... إلخ، مما يجعل الخيارات محيرة أو كما يقول المثل «إذا تريد تحيره خيّره». بداية الشهر الحالي (1 أغسطس) هو اليوم العالمي للشبكة العالمية، التي أحدثت تغييرًا في أذواق مجتمعات العالم، كما أحدثت تغييراً كبيراً في تفضيل واختيار الأعمال الأدبية وطريقة التعامل معها.
عبر هذه الخيارات والتفضيلات، هل شوَّه الإنترنت الأعمال الأدبية أم طوَّرها؟ ربما، لا هذا ولا ذاك، بل يبدو أنه يعمل تغييراً في خلطة الخيارات دون التأثير الواضح على الجودة ومستوى الإبداع.. لكن العقد القادم قد يتشكل بصورة أوضح...