جريدة الجرائد

الشّعبوية والدّيموقراطيّة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

أحمد نظيف

في الديموقراطية التمثيلية الحديثة، يتم التناوب على السلطة عبر الانتخابات. حتى الآن، ما زالت الانتخابات المعيار الأقوى لاختبار الديموقراطية. لكن، في الأنظمة التي تحكمها الشعبوية، أو ما تسمى بالديموقراطية الهجينة، تتحول الانتخابات إلى "حرب تحرير وطني" أو صراعٍ وجودي بين الخير والشرّ. ويتحول المنافسون للشعبوية إلى حفنة من الخونة، ذلك أن الشعبوية تقوم على تأبيد وتغذية الصراع – وفق مصفوفة عقائدية مقدسة - بين من تسميهم "النخبة" من جهة، و"الشعب" في الجهة المقابلة، فيما يقدم القائد الشعبوي نفسه مدافعاً عن الشعب في مواجهة النخب الحزبية والسياسية، التي يصفها دائماً بالفاسدة.

في المقابل، تسقط المعارضة التي تصف نفسها بالديموقراطية في فخّ حصر الأسلوب الشعبوي للسلطة في مجرد عدائه للتعددية، أو بوصفه مجرد شكل مكثف من أشكال الخطاب السياسي الإقصائي. فهذا التجاهل لجوهر الشعبوية والتركيز حصرياً على خطابها الإقصائي قد ينجح في حماية تعريف الشعبوية من الجدل اليومي، إلا أنه يسمح أيضاً بتجاهل القضايا السياسية، أو بعبارة أخرى ما يقوله الشعبويون بالفعل ولماذا. وهذا على الأقل متوافق مع الرأي السائد بأن المواقف الشعبوية غير عقلانية بوضوح إلى درجة أن لا جدوى من عناء مناقشتها على أي حال. ومع ذلك، هذا ليس سوى رفض للمطالبة بالتعددية التي يتم تداولها لوصف الشعبوية في المقام الأول. وعلى وجه الخصوص، فإنه يتيح تجنب الأسئلة الأساسية المتعلقة بإعادة التوزيع والندرة، مثل تلك التي يواجهها القطاع الأوسع من الشعب الذي يعطي صوته للشعبوية في كل استحقاق انتخابي. وهذه النزعة الاختزالية ليست بدعةً محددةً في مكان معين، بقدر ما هي حالة معممة في كل الساحات التي وجدت فيها الحركات والشخصيات الشعبوية أو حكمتها. وقد أفرد الألماني فيليب مانو، في كتابه "الاقتصاد السياسي للشعبوية في أوروبا"، حيزاً مهماً لتحليل هذا النزوع.

بدلاً من التعلق بأشكال الغضبّ، يجب النظر في أسبابه. فالشعبويات القومية والدينية واليمينية المتطرفة تتغذى كلها على غياب العدالة الاجتماعية وانعدام الأمن الاقتصادي، فعندما يشعر قطاع كبير من السكان بأن النمو الاقتصادى لا يفيد سوى نخبة صغيرة، يستطيع الزعماء الشعبويون استغلال هذا السخط من خلال الوعد بإعادة توزيع الثروة والسلطة. وعندما تضرب الأزمات الاقتصادية والبطالة وركود الأجور هذا القطاع الأكبر من السكان، يميل هؤلاء إلى دعم السياسات الشعبوية التي تعد بالحماية من القوى الاقتصادية العالمية، مثل التعريفات الجمركية والقيود المفروضة على الهجرة والسياسات الاقتصادية القومية. وعندما يشعر المواطنون بالانفصال عن العملية السياسية، تزدهر سوق الشعبوية. وقد يكون هذا الحرمان من الحقوق نتيجة للفساد المتصور، أو الافتقار إلى التمثيل، أو الحكم غير الفعّال. وكثيراً ما يضع الشعبويون أنفسهم في موقع الغرباء القادرين على "تنظيف" السياسة واستعادة السلطة إلى الشعب. وفي البلدان ذات المؤسسات السياسية الضعيفة، يستطيع الشعبويون تعزيز سلطتهم بسهولة أكبر من خلال تقويض الضوابط والتوازنات، وتأكل استقلال القضاء. وغالباً ما ترتبط هذه السلطة بالسياسة الهوياتية، حيث يستغل القادة الشعور بالقومية أو الهوية العرقية أو التجانس الثقافي. وقد ينطوي هذا على إلقاء اللوم على الأقليات أو المهاجرين أو القوى الأجنبية باعتبارها تهديداً لهوية الأمة أو أمنها.

لذلك، فإن سؤال الديموقراطية، في بعدها التمثيلي، يرتبط اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، بالصراع حولها مع الشعبويين، الذين ينجحون من خلالها في كسب المواقع والمساحات سياسياً وشعبياً. وهذه معضلة. لكن هذا الصراع في الوقت نفسه يشكل جزءاً من الديموقراطية ذاتها. فهو علامة على أن الديموقراطية – رغم ضعفها – ما زالت قادرةً على الحياة. لكن المشكلة هي أن الصراع حول الديموقراطية يتناقض مع قدسية المساواة الديموقراطية. ففي نهاية المطاف، لا بد من أن ينكر الديموقراطيون وجود أرضية مشتركة مع مناهضي الديموقراطية.

لكن المساواة شرط أساسي للديموقراطية وجزء من عملية التعايش السلمي والصراع المنظم. والصراع المدمر حول الديموقراطية مع الشعبوية يحدث اليوم على حساب الصراعات البناءة داخل الديموقراطية. ربما تقودنا هذه المعضلة إلى حتمية "ما بعد الديموقراطية"، تلك المرحلة التي تتضاءل فيها كثيراً المشاركة الديموقراطية الجوهرية وتأثير عامة الناس، نحو هيمنة صراع نخب ديموقراطية في مواجهة نخب غير ديموقراطية. ويحدث نوع من الانفصال بين الناس والجسم السياسي، فيما تستأثر الطبقة التكنوقراطية بإدارة هياكل المجتمع، بوصفها الأكثر قدرة على إدارة القضايا المعقدة من الممثلين المنتخبين. وفي حين أن الحكم التكنوقراطي قد يكون فعالاً في مجالات معينة، إلا أنه قد يتحول إلى جسم مستقل منفصل بدوره. وبالتالي، نعيش في مجتمعات فقاعية تدور في فلكها ثلاث فقاعات منفصلة ومتصلة في شكل من أشكال توازن قوى الأمر الواقع. وهو وضع يمكن أن يقود إلى اختفاء الدولة، كجهاز، أو إعادة إنتاجها على نحو شديد البشاعة، في مستقبلٍ بات اللايقين سمته الأساسية.

وخلافاً لرواية "نهاية التاريخ" وما رسخته من حتمياتٍ هشة، فإن نهاية الديموقراطيات الليبرالية لم يعد أمراً مستحيلاً، بل ممكنناً ويبدو غير بعيد.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف