الاختلاف على مفهوم الطفولة (2-2)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبد الله سليمان الطليان
وعلى الرغم من ذلك، فقد أدرك عدد قليل من النقاد على الأقل، أن الخطابات التي تتمحور حول براءة الأطفال كانت تستخدم بغرض تعزيز الرقابة على الإنترنت من دون مراعاة الحاجات الأطفال الفعلية.
وفي مقال نشر في العام 1997 في مجلة معلم راديكالي Radical Teacher، لاحظ المنظر الإعلامي هنري جيتكينز Henry Jenkins بذكاء أن الذعر الأخلاقي لدى الآباء والمعلمين، والسياسيين من الإنترنت ليس أمراً جديداً فبدءاً بالهجمات على الكتب المصورة comic books في أوائل القرن العشرين إلى حالات الذعر اللاحقة بشأن الآثار السلبية التي تخلفها السينما، والراديو، والتلفزيون، جرى بالفعل التدرب جيداً على الحجة القائلة إن وسائل الإعلام الجديدة تشكل تهديداً للشباب. ولم تكن المشكلة الحقيقية وفق جينكينز في وسائل الإعلام الجديدة، بل كانت في أسطورة براءة الطفولة نفسها: إن أسطورة (براءة الطفولة) تفرِّغ الأطفال من أي أفكار خاصة بهم، وتجردهم من إرادتهم السياسية ومفكرتهم الاجتماعية، فيصبحون بذلك أداة تلبي حاجات الكبار ورغباتهم وسياستهم.. بعد الطفل «البريء» تجريداً خطيراً على نحو متزايد عندما يبدأ في استبدال أفكارنا بتفكير الأطفال الحقيقي، أو عندما يساعد في تسويغ جهود تقييد عقول الأطفال الحقيقيين وتنظيم كياناتهم. كما أن أسطورة (براءة الطفولة) التي ترى الأطفال فقط ضحايا محتملين في عالم الكبار أو مستفيدين من الحماية الأبوية، تعارض طرق التدريس التي تسمح بتمكين الأطفال باعتبارهم فاعلين ناشطين في العملية التعليمية، لا يمكننا تعليم الأطفال كيفية الانخراط في التفكير النقدي من خلال حرمانهم من الوصول إلى المعلومات التي تشكل أمامهم تحدياً، أو الصور الاستفزازية».
لم يكن جينكينز Jenkins الشخص الوحيد الذي أصر على أن التحدي الحقيقي كان يكمن في تحويل الأطفال والمراهقين أمر استخدام الإنترنت بطرق منتجة ومبتكرة لبناء مجال عام جديد وحيوي. إننا ندرك الآن أن عدداً كبيراً من التربويين وأولياء الأمور اختاروا السماح للأطفال بالولوج الواسع إلى الإنترنت في التسعينيات وأوائل القرن الحادي والعشرين، فانتهى الأمر بهؤلاء الشباب إلى بناء عديد من وسائط التواصل الاجتماعي، ومنصات الاقتصاد التشاركي التي من شأنها تغيير حياة الناس من جميع الفئات العمرية بحلول نهاية العقد الأول من الألفية الجديدة.
(في العام 1996، كان مؤسس شبكة التواصل الاجتماعي «فيسبوك» مارك زوكربيرغ، يبلغ من العمر اثنتي عشرة سنة، ومؤسس منصة إير بي إن بي ريان تشيسكي Brian Chesky كان يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً. ولكن جابه جينكينز في ذلك الوقت، صعوبة في تسويق فكرته - بحيث كانت حجته منتشرة في ثقافة كان كثير من الناس قد استسلموا فيها فعلياً للاهتمام بمستقبل الطفولة. ومن بين المشككين الأكثر شهرة، نذكر منظراً إعلامياً آخر اسمه نيل بوستمان Neil Postman ، وقد رأى بوستمان في كتابه في العام 1982 «اختفاء الطفولة» The Disappearance of Childhood أن وسائل إعلام جديدة كانت تعمل على تقويض التمييز بين سن الطفولة وسن البلوغ. وزعم أن الكشف السريع والمتكافئ لوسائل الإعلام الكهربائية للمحتوى الكلي لعالم البالغين سينتج عنه عديد من النتائج العميقة».
وتضمنت هذه النتائج التقليص من سلطة البالغين وفضول الأطفال. على الرغم من عدم استثمار بوستمان بالضرورة في فكرة براءة الطفولة، فقد استثمر على الرغم من ذلك في فكرة الطفولة ومثاليتها، التي كان يظن أنها كانت أصلاً في حالة تدهور. وزعم أن لهذا علاقة كبيرة بحقيقة أن الطفولة - التي هي اختراع تاريخي حديث نسبياً - هي تشكل كان دائماً متشابكاً بشدة مع تاريخ تقنيات وسائل الاعلام.
بينما كان هناك دائماً شباب بالطبع، افترض عدد من العلماء أن مفهوم الطفولة في المقابل هو اختراع حديث مبكر، ولم يكتف بوستمان بتبني هذا الموقف، بل جادل أيضاً في كون هذا المفهوم يمثل إحدى النتائج بعيدة المدى لأول تقنية طابعة المسماة بالحرف المتحرك movable type، التي ظهرت أول مرة في مدينة ماينز Mainz بألمانيا في أواخر القرن الخامس عشر «.
ومع انتشار ثقافة الطباعة، حد من منزلة الخطاب الشفوي، مما خلق تسلسلاً هرمياً بين أولئك الذين يستطيعون القراءة ومن لا يستطيعون ذلك. ووضع صغار السن على نحو متزايد خارج عالم الكبار لمحو الأمية، خلال هذه الفترة حدث شيء آخر: بدأ الشروع في إنتاج أنواع مختلفة من الأعمال المطبوعة لفائدة أنواع مختلفة من القراء. وفي القرن السادس عشر، لم تكن هناك كتب مماثلة أو كتب على أساس مرحلة عمرية؛ بل كان ينتظر من القراء الجدد قراءة الكتب الأساسية نفسها، سواء بلغوا من العمر خمساً أو خمساً وثلاثين سنة (10).
وعلى الرغم من ذلك، تغير العالم بحلول أواخر القرن الثامن عشر، بحيث كان بإمكان الأطفال الوصول إلى كتب الأطفال، وكان بإمكان الكبار الوصول إلى كتب البالغين، كما اعتبر الأطفال آنذاك فئة منفصلة تتطلب الحماية من شرور عالم الكبار. لكن عهد الطفولة وهي الفترة الممتدة تقريباً من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين، وفقًا لبوستمان) لم يعمر طويلاً. ذلك بأن وصول التلفزيون إلى حياة الناس في منتصف القرن العشرين، كان بمنزلة بداية النهاية لفترة الطفولة على الرغم من أن تقنيات الاتصالات ووسائط البث السابقة، من التلغراف إلى السينما، كانت تضعف من قوة هذه الفترة. ويستنتج بوستمان أن «التلفاز أدى إلى تآكل الخط الفاصل بين الطفولة والبلوغ من خلال ثلاث طرق تتعلق جميعها بسهولة الوصول غير المتمايزة إليه: أولاً، لأنه لا يتطلب أي تعليمات لاستيعاب شكله. ثانيًا، لأنه لا يفرض مطالب معقدة على العقل أو السلوك، وثالثاً لأنه لا يميز بين جمهوره.
إن كتاب بوستمان يحتوي على ملاحظة جانبية غريبة، ولكنها نادراً ما تناقش بشأن التأثير المحتمل للحوسبة على الرغم من تركيزه على التلفزيون.
في الفصل الأخير، يطرح بوستمان ستة أسئلة ويجيب عنها، بما يلي: (هل ثمة أي تقنيات اتصال تملك القدرة على الحفاظ على الحاجة إلى الطفولة؟) فيرد على سؤاله بكون (التكنولوجيا الوحيدة التي لديها هذه القدرة هي الحاسوب)، لبرمجة حاسوب ما - وفق شرحه - يجب على المرء في جوهره أن يتعلم اللغة، وهي مهارة يجب اكتسابها في مرحلة الطفولة: (إذا كان ضرورياً معرفة الجميع كيفية عمل أجهزة الحاسوب، فكيف يفرضون نظرتهم الخاصة للعالم، وكيف يغيرون تعريفنا للحكم، أي إذا اعتبر أنه من الضروري أن يكون هناك إلمام عالمي بالحاسوب، فمن الممكن تصور أن تعليم الشباب سيزداد أهمية، وقد تستمر ثقافة الشباب التي تختلف عن ثقافة الكبار. لكن يمكن للأمور أن تسير على نحو مختلف، فإذا وجدت المصالح الاقتصادية والسياسية ضالتها على نحو أفضل في السماح للجزء الأكبر من السكان شبه المتعلمين بالترفيه عن أنفسهم بسحر ألعاب الحاسوب المرئية، بحيث يستخدمون أجهزة الحاسوب وتستخدمهم في الوقت نفسه من دون فهم... فآنذاك يمكن للطفولة من دون وجود عائق يذكر أن تواصل رحلتها نحو عالم النسيان.