المواكب الحسينيّة وقد تحوّلت إلى وسيلة للتّحريض...
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
فاروق يوسف
حرص العراقيون عبر سنوات طويلة على إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي من خلال طقوس وشعائر يغلب على بعضها طابع المغالاة في إيذاء النفس، وهو ما لا يقره فقهاء الشيعة وإن لم يحرمه إلا قليلون ضاعت أصواتهم وسط صخب المتاجرين سياسياً بالمناسبة ومعظمهم من الفرس أو من الموالين لهم. وفي كل الأحوال لم تكن تلك الطقوس تُجرى في مناخ طائفي تهيمن عليه الروح العدوانية.
كانت أشبه بتقليد شعبي لا يخرج من منطقة الندب والعويل والحسرة، كما لو أن العراقيين حمّلوا أنفسهم مسؤولية ترك الحسين وحيداً في المعركة التي قُتل فيها عام 61 هجرية الموافق لعام 680 ميلادية. وتلك فكرة لا علاقة لها بحقيقة الواقعة التاريخية التي جرت على أرض كربلاء العراقية ولم يكن العراقيون طرفاً فيها. لم يكن هناك عراقي واحد من أصحاب الحسين الذين قُتلوا معه، كما أن أحداً من العراقيين لم ينتسب إلى جيش الدولة الأموية الذي تولى مهمة إخماد ثورة الحسين. صار العراقيون حسينيين مدفوعين بالحماسة العقائدية التي تدهور التعبير عنها عبر الزمن ليصل إلى مرحلة اللطم وضرب الظهور بالسلاسل الحديدية وشق الرؤوس بالسكاكين. أما المسرحيات التي كانت تُقدم في ساحات الأحياء الشعبية صبيحة يوم العاشر من محرم فقد كانت تروي حكاية تمرد الحسين ومقتله في جو تغلب عليه الخفة، رغم أنها تستند إلى رواية أبي مخنف لوط بن يحيى الغامدي الذي عاش بين عامي 110 و170 هجرية التي احتوت على الكثير من الحكايات الواقعية والمتخيلة التي تركز على الجانب الذي يستدعي البكاء.
بالتعليم انتصرت الدولة المدنية
ضمن خطتها لإنشاء مجتمع عراقي حديث قادر على أن يتحقق من قطيعته مع ماضيه القبلي، بكل ما تميز به من فقر وجهل وتمييز على أساس الهوية الطائفية والجهوية، عمدت السلطة السياسية التي تأسست بعد انقلاب تموز (يوليو) 1968 إلى منع الفعاليات التي اعتبرتها خروجاً مستهجناً على المناسبة الدينية. حدث ذلك بالتزامن مع حملة محو الأمية وقرار إلغاء استعمال الألقاب القبلية والتعليم المجاني في كل مراحله. كانت هناك خطة محكمة لتقوية النسيج الاجتماعي في إطار الدولة الحديثة التي هي دولة المواطنة التي يتحرك فيها المرء بقوة كفاءته وخبرته بعيداً عن قبيلته وطائفته وجهته. لم يكن منع تظاهرات التطبير، وهو ضرب الرأس بالسكاكين، قراراً طائفياً بقدر ما كان قرار دولة تريد أن تقيم مجتمعاً حديثاً بعدما تمكنت من استعادة ثرواتها بعد تأميم النفط. كان بالتأكيد قراراً سياسياً، ولكنه لم يكن موجهاً ضد طائفة بعينها. لا لشيء إلا لأن تلك الطائفة كانت ممثلة في الحكومة كما في الحزب الحاكم بنسبة ثمانين في المئة. مقارنة بما كانت تنجزه الحياة اليومية في العراق من قفزات في اتجاه العصر الحديث، كان الإبقاء على المشاهد المبتذلة في التعذيب الجسدي العلني نوعاً من الاستتسلام الرخيص لقوة ماضوية. ما يجب التذكير به هنا أن مادة تلك المواكب الحسينية، هم شباب كانوا قد انخرطوا في الحياة العملية بعدما أنهوا دراساتهم الجامعية. لقد حقق النظام السياسي يومها إرادته من خلال التعليم. كان من الصعب على منظمي المواكب الحسينية أن يعثروا على مَن يؤدي تلك الشعائر. ما حدث كان انتصاراً للدولة المدنية.
معارضة لا تطالب سوى باللطم
كان السفير زلماي خليل زاده من أكثر المسؤولين خبرة في خفايا المعارضة العراقية السابقة وخباياها، وهو ما أهّله لإدارة مؤتمر لندن الذي انعقد قبل ثلاثة أشهر من الغزو الأميركي. كان الشعار المعلن لذلك المؤتمر "توحيد صفوف المعارضة"، غير أن الهدف الحقيقي هو العمل على تهيئة المعارضين الموالين للغزو ومن ثم الاحتلال للانتقال من موقع المعارضة إلى موقع الحكم. كان ولاء أولئك المعارضين للاحتلال الأميركي أمراً مفروغاً منه، غير أن ما فاجأ زاده أن ممثلي الأحزاب والكتل الشيعية لم يكن لديهم مطلب سوى تمكين الشيعة من أداء الطقوس والشعائر الحسينية. لقد تأكد يومها للمبعوث الأميركي أن فكرة الدولة غير موجودة في أجندة حكام المستقبل العراقي، وأن العراق سيتحول إلى حسينية، أما ثرواته فإنها ستتبخر في اتجاهين: تمويل الاقتصاد الإيراني في مواجهة العقوبات الأميركية وإثراء زعماء الأحزاب وأفرادها من خلال عمليات فساد غير مسبوقة في التاريخ. ما حدث في ما بعد فاق التوقعات الأميركية. فحين أنفقت الحكومة العراقية ذات سنة ثلاثة مليارات دولار أميركي على الكباب وسواه من المأكولات التي وزعت على المساهمين في المسيرات الجنائزية، تأكد لخبراء الفساد العالميين أن المناسبات الدينية لم تكن سوى واجهة للفساد. وإذا كان وزير الشؤون الدينية الباكستاني قد أعلن اختفاء حوالي 50 ألف من مواطنيه في العراق خلال زيارات محرم الأخيرة، يمكننا تخيل عدد الباكستانيين الذين أغرتهم الوجبات المجانية بالبقاء ومن ثم الانتقال إلى مهنة التسول في بلد ضاعت هوية مواطنيه في خضم تجاذباته الطائفية.
الأسوأ يكمن في المستقبل
المغالاة هي من طبع العراقيين. يبالغ العراقي في غضبه وسخائه وعاطفته وألمه وحيائه ووقاحته ومديحه وهجائه، ولكنه لم يُعرف من قبل بالمبالغة في تعذيب نفسه إلى درجة الزحف وصولاً إلى باب العتبة الحسينية أو غسل أقدام الزوار الإيرانيين أو الارتماء في الطين تلذذاً. كما أن مشهد الأنبياء وهم يأتون إلى كربلاء على الجمال لم تتضمنه رواية أبي مخنف التي كانت معتمدة في رواية مقتل الحسين. ذلك مشهد ساخر ومأسوي صار يتكرر كل سنة في كربلاء.
"دعونا نلطم" ذلك ما قالته المعارضة العراقية في مؤتمر لندن. ولكن اللطم صار مناسبة للسرقة، والأسوأ أنه صار مناسبة يذل العراقيون فيها أنفسهم بطريقة مازوخية. في مواجهة ذلك التدهور خفتت أصوات المعتدلين من رجال الدين الذين حذروا في أوقات سابقة من إفراغ الشعائر من طابعها المقدس، رغم أنهم لم يتوقعوا أن يوماً ما سيأتي تتمكن فيه الأحزاب من تحويل الشعائر الدينية إلى مناسبة للهيجان الطائفي الذي يستهدف بعدوانيته الآخرين.