جريدة الجرائد

لا يمين ولا يسار

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

أحمد مصطفى

أحمد مصطفى

في عام الانتخابات الاستثنائية هذا، حيث يشهد العالم بدوله ومناطقه أكبر عدد من الانتخابات في عام واحد بشكل غير مسبوق في التاريخ، تظهر جلياً حقيقة أن التيارات السياسية الأساسية فقدت تقريباً أغلب ما يميزها حتى كادت كلها تتشابه. وبالتالي، وعلى رغم ما بدا ويبدو سيبدو من نتائج في انتخابات الدول والكتل فإن المحصلة تكاد تكون متقاربة من دون تغيير كبير.

في أكبر بلاد العالم سكاناً، الهند، فاز حزب اليمين بهاراتيا جاناتا بقيادة مودي بالانتخابات ليكمل دورة ثالثة من رئاسة الحكومة. لكن النتيجة لم تكن «كاسحة» كما كان متوقعاً، وبالتالي يجد الحزب الحاكم نفسه في وضع يجعله مضطراً للتخلي عن كثير من السياسات «الراديكالية» التي اتبعها في فترتي الحكم السابقتين. ويكاد الحزب يتجه ليصبح أكثر اعتدالاً ما يقربه من أحزاب اليمين والوسط التقليدية.

على الجانب الآخر من العالم، في الولايات المتحدة حيث أكبر اقتصاد وأكبر قوة عالمياً، تبدو نتيجة انتخابات نوفمبر(تشرين الثاني) القادم أقرب إلى فوز الجمهوريين وعودة دونالد ترامب إلى البيت البيض. لكن حتى لو فاز الديمقراطيون، فلا يتوقع تغييرات كبيرة في سياسة أمريكا داخلياً وخارجياً.

تلك مجرد أمثلة على أن الانتخابات، خاصة في الديمقراطيات الغربية وأشباهها في الدول الصاعدة، لم تعد مساراً للتغيير كما كانت قبل عقود قليلة. ولعل هذا ما يفسر الانخفاض المطّرد في أعداد الناخبين الذين يصوتون فيها، خاصة من بين الأجيال الشابة، في احتجاج على العملية برمتها. وربما كان بروز تيارات متطرفة ومتشددة على هامش الساحة السياسية التقليدية هو فقط ما يحافظ على بعض الزخم للتصويت في الانتخابات، سواء من الكتل المؤيدة للتطرف والتشدد أو من بعض الجماهير الراغبة في مقاومة الأصولية السياسية الخطرة.

بدا ذلك واضحاً في الانتخابات بدول مركز العالم (القديم) في أوروبا، بدءاً من انتخابات البرلمان الأوروبي التي جرت في 27 دولة من دول الاتحاد الأوروبي أو الانتخابات التي شهدناها هذا العام من هولندا إلى بريطانيا وفرنسا.

لم ينقطع سيل التحليلات والتعليقات حول الانتخابات في أوروبا، والذعر من صعود اليمين المتطرف ثم التهليل لما اعتبره البعض انتصاراً لليسار في بريطانيا ثم فرنسا. والواقع أن في كل ذلك مغالاة ومبالغة تشبه إلى حد كبير المغالاة في قيمة الأصول في أسواق المال والأسهم والتي غالباً ما تؤدي إلى فقاعة تنفجر مسببة أضراراً.

صحيح أن اليمين الشعبوي المتشدد فاز في الانتخابات من قبل في إيطاليا ثم هولندا، وبدرجة أقل حقق تقدماً في غيرهما. لكنه في النهاية حين أصبح في السلطة كما في إيطاليا اضطر للاعتدال قليلاً حتى اقترب من اليمين. وفي هولندا لم يتمكن اليمين المتطرف من الحكم بمفرده فكان التحالف اليميني الأوسع مخففاً لغلواء وشطط التشدد اليميني.

أما في البرلمان الأوروبي، ورغم أن نتائج الانتخابات أعطت اليمين المتطرف عدداً أكبر من النواب، إلا أن الوسط ويمين الوسط يظل صاحب الأغلبية في البرلمان وإن كانت أغلبية بنسبة تآكلت عن البرلمانات السابقة. وبالتالي فكل المخاوف من أن تتغير سياسات الاتحاد الأوروبي بسبب مواقف نواب اليمين المتطرف ربما كان مبالغاً فيها.

كل ذلك لا يعني بالطبع أن أوروبا تتجه يميناً كما بقية العالم في الأغلب، لكنه في النهاية يمين سياسي لا يختلف كثيراً عن الوسط الذي يزاحمه فيه اليسار الذي أصبح «وسطاً» أيضاً منذ ثمانينات القرن الماضي. وتكاد الساحات السياسية في أغلب مناطق العالم ودوله تضيع فيها ملامح اليمين واليسار التقليدية. فلا يمين ولا يسار، ولا حتى الوسطي منها، يختلف عن بعضه كثيراً في السياسات والمواقف. ولولا التطرف على الجانبين لانمحى أي تمايز تماماً.

كذلك الحديث عن رد فعل على صعود اليمين المتطرف كما حدث في انتخابات بريطانيا وفرنسا لا يبدو متسقاً تماماً مع الواقع. فتحالف أحزاب اليسار المتباينة مع الوسط في الجولة الثانية من الانتخابات الفرنسية لوقف تقدم اليمين المتطرف الذي صعد في الجولة الأولى لم يؤدّ سوى اضطراب سياسي في فرنسا قد يستمر حتى انتخابات عام 2027. أما في بريطانيا، فقد فاز حزب العمال بأصوات الناقمين على حكومة حزب المحافظين ومخاوف آخرين من صعود اليمين المتطرف. وسبق أن أشرنا في هذه الزاوية إلى أن حزب العمال البريطاني لم يعد «يسارياً» كما يعتقد، فمواقفه وسياساته يمينية أكثر من يمين الوسط.

الخلاصة، أنه على رغم ما يبدو ظاهرياً من اتجاه العالم نحو اليمين، والمتطرف المتشدد منه، وتفاؤل البعض بأن تلك الموجة قد تعيد لليسار حيويته رداً على هذا الصعود اليميني فإن الواقع يقول لا يمين ولا يسار، إنما استمرار التزاحم على الوسط الذي يتشظى تطرفاً على الجانبين. وبالنظر إلى التراجع المستمر في نصيب الفائزين من الأصوات الشعبية (وهي غير النتائج بحساب المقاعد البرلمانية) يتوقع استمرار تدهور ثقة الجماهير في عملية «الديمقراطية التمثيلية» كوسيلة نموذجية للحكم.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف