وهكذا فعلها بايدن
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سمير التقي
وبعد أن لم يعد من الممكن تفادي المقارنة بين هزالة موقفه وتراجع ملكاته الذهنية في المناظرة الكارثية، وبين رباطة جأش ترامب وما تلاها من تماسكه وزعامته إثر محاولة اغتياله، صار التبديل أمراً حاكماً.
زاد من ورطة الحزب ما خلّفه الإرباك الشديد في خطابه والإرباك الشديد للحزب، والذي استمر لثلاثة أسابيع، واتضح في تراجع خطابه السياسي وانكفاء أدواته الإعلامية. وبدوره، أتاح هذا الفراغ للحزب الجمهوري ولترامب شخصياً إمكانية ملء الفضاء السياسي بشكل حاسم.
وبالاستفادة من هذا الفراغ، حاول ترامب تكريس نفسه، ليس فقط كزعيم أوحد للحزب الجمهوري، بل كاد أن يكتسح الساحة السياسية تماماً، محاولاً أن يصير زعيماً أوحد لأميركا، لا منازع له، حتى قبل أن تحصل الانتخابات.
نعم، بالنسبة إلى الديموقراطيين، كانت المخاطر كبيرة، ليس بسقوط بايدن، ولا على أعضاء حزبه من الكونغرس فحسب، بل كان مستقبل الحزب الديموقراطي بأسره في الميزان. ذلك أن مختلف الكتل السياسية الرئيسية في الحزب كانت تترقب من قيادات الحزب أن تتمكن من وضع زعيم وندّ جدّي قادر على مجابهة ترامب. وبالنسبة إلى جيل الشباب الصاعد، كانت الأمة ذات أبعاد خاصة. كان هذا الجيل منذ زمن هيلاري كلينتون مستاءً من استئثار ذلك الجيل الفائت القابع على قيادة الحزب، منذ عقود امتدت من كلينتون لأوباما إلى بايدن وكيري.
لذلك، كان واضحاً أنه لو استمر بايدن في الترشح، فسيسقط في الانتخابات، وسوف تبتعد عن الحزب قطاعات واسعة. وكان الشباب والأقليات، النساء بشكل خاص، فئات تحمّل القيادات الحزبية العتيقة مسؤولية الخسارة.
في المقابل، كان كل ذلك سيعني أن تقع البلاد بلا منازع ولأمد غير معلوم تحت سيطرة التيار الأكثر محافظة في الحزب الجمهوري. حيث بلغ الأمر بقسيس إنجيلي كبير أن يتحدث في مؤتمر الحزب الجمهوري عن "حقيقة" أن العناية الإلهية تدخّلت لحماية ترامب، كرمز للحرّية والخير، من يد الشيطان الشرير الذي كان يحاول اغتياله، لترتفع في أرجاء المؤتمر أصوات التبريكات الإلهية بالمعجزة الترامبية الجديدة.
إذ احتاج الأمر لمقابلة كارثية بائسة، ومحاولة اغتيال فاشلة كي تتضافر القوى داخل الحزب الديموقراطي، كي يتزعزع ذلك الجيل القديم في الحزب الديموقراطي، وكي يدفع بايدن للتنحّي.
فلقد اكتسب بايدن صفة الزعيم التاريخي للديموقراطيين، ليس من خلال كونه وصل إلى الكونغرس منذ 50 عاماً كأحد أكثر الأعضاء شباباً، وليس من خلال كونه من أكثر المخضرمين خبرة فيه، بل لكونه أيضاً تمكن من إسقاط الرئيس السابق ترامب وإنقاذ الحزب الديموقراطي أيضاً.
إضافة إلى ذلك، احتاج تبديل بايدن لضغوط سياسية وتنظيمية داخلية أيضاً، وتضافرت معها الضغوط مالية، إذ جمّد العديد من ممولي الحملة الديموقراطية أموالهم، في مؤشر قوي إلى أهمية تنحّي بايدن. وبينما حافظت واجهة الحزب الديموقراطي على صورة متماسكة شكلاً، إلّا أن العواصف كانت تدور بقوة في الكواليس.
كان السؤال الأول عن الحكمة في تبديل الحصان في منتصف السباق؟ ثم سؤال آلية التنحّي؟ وانتهت الأمور عند سؤال المرشح البديل؟
وهكذا تنحّى بايدن!
لتصبح القضية الأهم: كيف يمكن قيادة الحزب الديموقراطي أن تختار المرشح الجديد بما يعزز وحدة الحزب ويدعم تماسك قواعده؟
فلقد أصبحت قضية وحدة الحزب وتعزيز التفاف الناس حوله، هي القضية المركزية في اختيار البديل. لذلك، وبالرغم من ترجيح كفة كامالا هاريس، كان هاجس قيادة الحزب هو التأكّد من أن هذا الخيار لن يزعزع وحدة الحزب، بل إن هذا الخيار سيسمح بتوسيع قاعدته الجماهيرية، وسيسمح بالتأكّد أن يكون المرشح الجديد قوياً بما يكفي كي يعيد توزيع الأوراق من الصفر.
لذلك تمّ دعم كامالا هاريس من دون تكريسها نهائياً. فكامالا هاريس بشكيمتها القوية تستطيع أن تضيف المزيد من القوة لزخم الحملة الانتخابية الديموقراطية.
أولاً، كونها امرأة، يعيد هيكلة وتوزيع قوى النساء لصالح الديموقراطيين، بعد أن حاول ترامب استقطابهم بتخفيض التركيز على قضية الإجهاض. وثانياً، بنَسَبِها المختلط بين الآسيوية والأفريقية واللاتينية وبين سيرتها كنائبة عامة في كاليفورنيا، يفترض أن تكون قادرة على استقطاب وحشد الأقليات والمكونات السوداء، واللاتينية والآسيوية. ثالثاً، بانتمائها للجيل الصاعد من قيادات الحزب الديموقراطي، ستكون قادرة أكثر من غيرها على استقطاب الشباب والقوى المجتمعية الأكثر ليبرالية.
سوى ذلك، تركت باقي التفاصيل لتستكمل عبر المسارات العملية الحزبية وصولاً للمؤتمر العام للحزب الديموقراطي.
لكن، بالمعايير الحزبية للحزب الديموقراطي، فإن وقوف قادة الكونغرس وعدد من مخضرمي الحزب إلى جانب هاريس، هو مؤشر واضح لما ترغبه النواة الصلبة للحزب. ليجيء الختم النهائي لتلك النواة الحزبية بإعلان نانسي بيلوسي تأييدها لهاريس، بعد تأكّدها من انضمام منافسي هاريس الرئيسيين لدعم حملة هاريس الانتخابية.
والأهم أنه، خلال يومين، أعيد تمويل الحملة الانتخابية من قبل الممولين الصغار بأكثر من 150 مليون دولار، بل منح المصوتون اللاتينيون هاريس 44 مليون دولار خلال ساعات.
بذلك انتقل النقاش من التركيز على سن المرشح الديموقراطي إلى سن ترامب المرشح الجمهوري، الذي قد يصبح بدوره أكبر الرؤساء سناً في تاريخ البلاد. وما عاد بإمكان ترامب أن يهتّ المرشح الديموقراطي بملكاته العقلية ويدعوه لفحص لمقدراته، بل انقلب السؤال الآن نحو ترامب.
لكن الأهم، أنه بعدما كان النقاش شخصياً يفتقر إلى المضمون السياسي والاجتماعي، تحولت حملتا الحزبين للصراع على القضايا الجوهرية. فعلى عكس ما ظهر من تخفيض في حدّة اللهجة الخطابية للحملتين الانتخابيتين للحزبين بعد محاولة اغتيال ترامب، تصاعدت الحملة الانتخابية للطرفين، وأُطلق العنان للمجابهة المفتوحة حول كل القضايا البرنامجية الرئيسية: الإجهاض والسلاح والهجرة غير الشرعية والتضخم إلخ...
يؤكّد ذلك الخطاب الناري الذي ألقته كامالا هاريس، لتعيد فتح النقاش الفكري والبرنامجي والاقتصادي في أميركا على أوسع نطاق. وفي ردّه عليها، فتح المرشح الجمهوري الجديد لمنصب نائب الرئيس إلى جانب ترامب في حملته الانتخابية، المجابهة بشكل واسع ضدّ الديموقراطيين وضدّ كامالا هاريس بشكل خاص.
وهكذا مثل كل مباريات الدوري في كرة القدم، تفقد المباراة إثارتها لتصبح باهتة ومملة، حينما تكون الهوة كبيرة بين فريقين غير متكافئين. لا شك لديّ، اننا في خضم شهادتنا على التحولات العميقة في أحشاء المجتمع الأميركي، سنجد الكثير من العِبر والإثارة في متابعة حراك الانتخابات الأميركية، فهي، مثل كل الأفلام الأميركية، ستكون مليئة بالتشويق والضحايا.