قرية مانديلا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
حسن مدن
لا آثار تاريخية تذكر في القرية المعزولة مكهيكيزويني، في مقاطعة الكاب الشرقية، بجنوب إفريقيا. لا قلاع احتمى فيها محاربون، ولا قصور بناها سلاطين، أو أباطرة، برع المعماريون في تصميمها، لا معابد ولا تماثيل خلّدها الزمن، ومع ذلك، فإن تلك القرية أدرجتها منظمة «اليونيسكو» في دورتها الماضية، المنعقدة في نيودلهي، على قائمة التراث العالمي، هي وموقع شاربفيل في محافظة ترانسفال، حيث حصلت مذبحة ذهب ضحيتها 69 متظاهراً من السود، بينهم أطفال عام 1960، ما حدا بحكومة الفصل العنصري إلى منع المؤتمر الوطني الإفريقي الحاكم حالياً.
ما من مجزرة أيضاً شهدها الموقع الأول أكسبتها ما للموقع الثاني من دلالة، لكن ما حملها إلى قائمة التراث العالمي هو أنها القرية التي نشأ فيها الزعيم الوطني والأممي، في الآن ذاته، نيلسون مانديلا، وأمضى فيها جزءاً من شبابه، كما شرح ذلك في سيرته الذاتية «طريق طويل إلى الحرية»، ففي هذا المكان، بالذات، بدأ نضاله السياسي.
على لائحة التراث العالمي أدرج 14 موقعاً، تحت عنوان «حقوق الإنسان والتحرير والمصالحة»، مواقع تحمل إرث نيلسون مانديلا، بينها جامعة فورت هير في كيب الشرقية، حيث درس مانديلا، ومباني الاتحاد في العاصمة بريتوريا، حيث أدى اليمين الدستورية كأول رئيس يُنتخب بالاقتراع العام في 1994.
على خلاف سواه من الزعماء، لم يسع مانديلا فترة حياته كاملة لأي تكريم، أو تمجيد، أو إقامة أنصاب له، حتى بعد هزيمة الفصل العنصري، وانتخابه رئيساً لجنوب إفريقيا، وهو منصب مستحق لقامة مثله، ورغم ذلك، رفض أن يبقى في منصبه لفترة رئاسة ثانية، مع أن لديه من الشرعية التاريخية ما يتيح له ذلك، لو أراد، لكنه آثر أن يقدّم الدليل الأخير على تغليبه للمبدأ، وزهده في السلطة.
التكريم لمانديلا أتى بعد وقاته عام 2013 عن عمر ناهز 95 عاماً، لا من وطنه جنوب إفريقيا، وشعبها، وإنما من المنظمات الدولية، ومن ضمنها «اليونيسكو»، في لفتة تقدير لتضحياته التي شملت قضاء 27 عاماً وراء القضبان في جزيرة روبن، قبالة سواحل كيب تاون، التي غدت بدورها موقعاً تراثياً بعد إدراجها على قائمة التراث العالمي، كرمز مهم لمحاربة القمع في عصر الفصل العنصري، ولمساهمته في نشر مبادئ الحرية والدفاع عن حقوق الإنسان، وإرساء مبادئ السلام، فلم تحمله سنوات سجنه الطويلة ومجمل تضحياته على أن يتصرف بمنطق التشفي والثأر من خصومه، بل كرّس جهوداً كبيرة لدى توليه رئاسة البلاد لإجراء المصالحة التاريخية بين البيض والسود، وإليه تنسب العبارة الشهيرة التي سيحفظها التاريخ: «نغفر لكن لا ننسى»، ومغزى عدم النسيان الذي عناه ليس الانتقام، وإنما العبرة والعِظة.