مأزق استراتيجي عالمي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
مفتاح شعيب
احتجبت الأزمة الأوكرانية نسبياً وراء الدخان المتصاعد من الشرق الأوسط وقعقعة المعركة الانتخابية الأمريكية والتوهان الأوروبي في عالم شديد التقلب، لكن هذه الأزمة، التي أصبحت مزمنة مقارنة بالمستجدات بعدها، تشهد في الآونة الأخيرة بعض الحلحلة، وتعرف تحركات ربما تعجل بنهايتها بصورة غير مألوفة تماماً كما بدأت قبل نحو ثلاثين شهراً.
بعد انتخابات البرلمان الأوروبي وصعود قوى اليسار الراديكالي في فرنسا وقمة حلف شمال الأطلسي في واشنطن وانسحاب الرئيس الأمريكي جو بايدن من السباق الانتخابي، بدأت اللهجة تتغير من أوكرانيا ذاتها، إذ سقطت الخطوط الحمر التي وضعتها كييف حول احتمال التفاوض مع موسكو، وقد تعزز هذا الاتجاه بأول زيارة قام بها وزير الخارجية الأوكراني ديمترو كوليبا إلى الصين طالباً توسط هذه الدولة العظمى القريبة من موسكو، التي لا تمانع بدورها في التفاوض إذا كان العرض جدياً ويأخذ في الاعتبار شروطها المعلنة وخرائط الأمر الواقع الجديد.
وسط هذه التطورات، بدأت المواقف الغربية تفقد حماستها وخطاباتها العنترية المحرضة على إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا، بل إن هذه المواقف بدأت تتشتت، وربما ستتصدع لاحقاً إذا عاد المرشح الجمهوري دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهذا احتمال قائم رغم الضجة التي يحدثها تزعم كامالا هاريس الحزب الديمقراطي في السباق الانتخابي، الذي لا تغيب عنه الأزمة الأوكرانية، التي باتت واحدة من القضايا الحاسمة في المشهد السياسي الغربي، وعامل انقسام أمريكي عميق بين موقف ديمقراطي وآخر جمهوري.
القوات الروسية المتوغلة في الشرق الأوكراني تحقق في كل يوم مكاسب جديدة بسيطرتها على بلدات ومحاور تقربها من مدن حيوية، كما تسدد ضربات نوعية لمعسكرات ومخازن أسلحة غربية، وقد كان لهذا التقدم العسكري وقع سيئ على كييف، وفاقم إحباط حلفائها في أوروبا والولايات المتحدة مع تنامي مشاعر الخوف من فقدان زمام المبادرة والتورط في مستنقعات أعمق. ويتجلى هذا الانزلاق إلى إحياء خطط قديمة لعسكرة الوضع الأوروبي، بعدما قالت واشنطن الشهر الماضي إنها ستباشر نشر صواريخ طويلة المدى في ألمانيا بدءاً من عام 2026 تجهيزاً لنشر أسلحة على المدى الأطول تشمل أسلحة فرط صوتية متطورة، وقد جاء الرد مباشراً من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي وجه تحذيراً مباشراً إلى واشنطن، من نشر صواريخ طويلة المدى في ألمانيا، مؤكداً أن موسكو ستلجأ لوضع صواريخ مماثلة في مواقع يسهل منها قصف الغرب.
تبادل القصف بالصواريخ بين الشرق والغرب، ربما لم يعد فرضية مستحيلة الوقوع كما كان الحال من قبل. وبعد تحذير بوتين، أعلن الأسطول الروسي عن تدريبات بحرية واسعة في بحر الشمال والمحيط الهادئ وبحر البلطيق وبحر قزوين، وهذه المناورات الضخمة بمشاركة أكثر 300 سفينة وغواصة وأسراب من المقاتلات لها رسائلها ودلالاتها في هذا التوقيت، وهي ليست استعراضية لكسر الروتين بين الجنود، وإنما تعكس وجهاً من وجوه مأزق استراتيجي عميق وصلت فيه العلاقات بين الغرب وروسيا إلى درجة الاختناق وتكاد تصيب العالم أجمع بالشلل، وهو وضع يتجه إلى مزيد من التوتر متفاعلاً مع أزمات دولية، تأخذ، هي الأخرى، مساراً تصعيدياً وتنذر بأسوأ العواقب.