«إعلان بكين».. بشرى خير أم «انتظار غودو»؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
صلاح الغول
مدفوعة بنجاحها النسبي في ملف المصالحة السعودية-الإيرانية، وراغبة في زيادة دورها ونفوذها في الشرق الأوسط في خضم المنافسة الشديدة بين القوى الكبرى، دعت الصين الفصائل الفلسطينية، لاسيما حركتي فتح وحماس، إلى مباحثات مصالحة وطنية في بكين، بوساطة المسؤولين الصينيين. وقد أسفرت المباحثات عن إعلان بكين، في 23 يوليو/ تموز المنصرم، الذي وافقت فيه الفصائل الفلسطينية (14 فصيلاً)، على إنهاء الانقسام، وتشكيل حكومة وفاق وطني مؤقتة لإدارة الضفة الغربية، وقطاع غزة، بعد وضع خطة للحكم في غزة بعد الحرب.
وبرغم إعلان توافق فتح وحماس على حكومة توافق وطني، إلا أنه من غير المرجح أن تدمج السلطة الفلسطينية حركة حماس في الأمد القريب؛ لأن هذا من شأنه أن يدفع الولايات المتحدة، وإسرائيل، والدول الغربية، إلى قطع المساعدات عن السلطة الفلسطينية. ولكن ذلك لا ينفي أن هذا الإعلان بحد ذاته سوف يسهل للطرفين عقد جولات للتفاوض بشأن انتخابات السلطة، وإشراك حماس في منظمة التحرير الفلسطينية.
ورغم أن أية مفاوضات مقبلة لن تفضي بدورها إلى نتائج جوهرية على صعيد إنهاء الانقسام، أو إدماج حماس في نظام الحكم الفلسطيني، إلا أنها سوف تلعب دوراً وظيفياً لكل منهما. فمن ناحية، ستساعد السلطة الفلسطينية على ترميم شرعيتها التي تتآكل يوماً بعد الآخر، في ظل الجمع بين انسداد الأفق السياسي أمام المفاوضات، وبين العجز عن حماية الشعب الفلسطيني من هجمات المستوطنين في الضفة الغربية، واستشراء الفساد بين مكوّناتها. ومن ناحية ثانية، فإن مشاركة حماس في هذه المفاوضات عقب الإعلان عنها من عاصمة دولة كبرى كالصين، تعني اعترافاً بشرعية الحركة، وبأنها جزء من «الشرعية الفلسطينية»، رغم «الفيتو» الإسرائيلي والأمريكي.
ولكن على الحركتين الرئيسيتين في الإطار الفلسطيني أن تغتنما الفرصة للمصالحة وتحقيق الوحدة الوطنية، وألّا يكون مصير إعلان بكين مثل مصائر الاتفاقات المتعددة للتوافق الوطني بين حركتي فتح وحماس (اثنا عشر اتفاقاً أشهرها اتفاق مكة المكرمة) منذ 2006. وإذا لم يكن السياق الداخلي، والإقليمي، والدولي الراهن، في ظل عدوان إسرائيلي يصل إلى حد الإبادة الجماعية، ولا يفرق بين فلسطينيي الضفة، أو غزة، ولا يميّز بين منتسبين لفتح أو منتمين لحماس، فأي ظروف تنتظرها الحركتان من أجل المصالحة، وتوحيد الصف، أم ستظلان في انتظار «مخلّص»، أو «غودو»، بتعبير الكاتب الإيرلندي «صموئيل بيكيت»، في مسرحيته الشهيرة، التي تحمل الاسم نفسه «في انتظار غودو».
والمفارقة، أنّ حالة الانقسام الفلسطيني تشبه مسرحية «بيكيت» الكوميدية المأساوية، من جوانب عدة. فكما أنّ المسرحية قديمة نُشرت أول مرة في عام 1952، وتتكون من فصلين فقط، فالانقسام الفلسطيني قديم منذ الصراع بين عائلتي الحسيني والنشاشيبي، على قيادة الشعب الفلسطيني في ثلاثينات القرن الماضي، في ظل الانتداب (الاحتلال) البريطاني. ويمكن النظر إلى أن الصراع بين الحسينية والنشاشيبية هو الفصل الأول، والصراع بين فتح وحماس، وحلفائهما، هو الفصل الثاني من ملهاة الانقسام الفلسطيني المأساوية.
وكما استفادت السلطات الاستعمارية، والحركة الصهيونية من الانقسام الأول، فإنّ أكبر المستفيدين من الانقسام الراهن هو جيش الاحتلال الإسرائيلي، وقطعان المستوطنين. ولذا نفهم معارضة تل أبيب لإعلان بكين.
وأخشى أن يكون مصير الشعب الفلسطيني، بما فيه الفصائل كلها، مقاومة وسلطة، نفس مصير «فلاديمير» و«إستراجون» المُعدمَين والمشرّدين، بطلَي مسرحية «بيكيت»، اللذين ظلّا في انتظار أملهما، أو مخلّصهما «غودو»، لينتشلهما من الفقر، والبؤس، والتشرد، واليأس من دون جدوى، ومن دون وضع خطة بديلة، برغم أنهما، للمفارقة، كانا يعتقدان أن غودو لن يأتي. وقد فكّر المسكينان بجدية، في النهاية، في الانتحار، ولكنهما لم ينجحا حتى في ذلك، وظلّا لا يبرحان مكانهما متطلّعين إلى السّراب.
وقد أسرّ لي بعض الأشقاء الفلسطينيين حديثاً مماثلاً لملهاة «في انتظار غودو»؛ حيث أكد لي أن منقذهم سوف يأتي من الشرق، ولكنه لا يعرف أين ومتى سيجيء، ولم يحدد لي أوصافه؛ لأنه لا يعرفه أصلاً.
والخلاصة، لا أريد بهذا المقال، القسوة على الأشقاء في فلسطين في هذه الظروف المأساوية التي يمرّون بها، ولكني أتطلع إليهم ألّا يفوّتوا فرصة المصالحة والوحدة الوطنية، وألا يكون أقصى ما يأملون فيه من إعلان بكين هو التوافق على إدارة الانقسام البغيض، فيما الأرض، والعرض، والهوية، والقضية الفلسطينية نفسها، تتعرض لأشرس هجمة بربرية عرفها تاريخ التحرر الوطني من نير الاحتلال.* متخصص في العلاقات الدولية والقضايا الجيوسياسية