"فرنسا الرئاسوية" أصبحت من الماضي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
أحمد نظيف
ولدت الجمهورية الفرنسية الخامسة في لحظة هربٍ من "الفوضى البرلمانية"، التي سادت الجمهورية الرابعة. وفقاً للسردية الديغولية، فإن هذه الفوضى هي التي قادت البلاد إلى مأزق حرب الجزائر المريرة. كان الجنرال القادم من صرامة الجيش ومركزيته القيادية المفرطة، يعتقد أن صلاح البلاد وتطورها يكمن في قيادتها كالثكنة. من خلال قائدٍ واحدٍ تكون بيده السلطة التنيفذية، أما السلطة التشريعية فهي تابعة له بشكل ما. كان ديغول بما يملكه من شرعية تحريرية قادراً على إقناع الفرنسيين ومن ورائهم النخب بجدارة هذا الخيار. في وقت كانت فيه دول أوروبا الغربية تتحول نحو الديموقراطيات البرلمانية، لأنها اكتوت بالسلطوية الفردية قبل الحرب، كانت فرنسا تعود إلى تراثها الفردي في حكم جمع، على نحو متناقض، بين الديموقراطية الليبرالية والسلطة الفردية. وقُدر له أن يعيش حتى اليوم رغم أزماته الدورية المتعاقبة.
كما يؤكد على ذلك، دانيال بورمود، في دراسته حول أزمة الجمهورية الخامسة الهيكلية، فإن هذا النظام قد قام في البدء على ركيزتين: المشاركة الانتخابية والنظام الحزبي. أما الأولى فقد انهارت، والثانية انفجرت. على مستوى المشاركة أصبح النظام السياسي الفرنسي يعيش ما يسميه علماء اجتماع العمليات الانتخابية بـ"الكساد الانتخابي" الذي يؤدي الآن في المتوسط إلى استبعاد واحد من كل ثلاثة ناخبين أنفسهم من اللعبة الانتخابية. أما في مستوى النظام الحزبي فقد كانت الحياة السياسية منذ عام 1958 منظمة على محور يسار ويمين. وتحت تأثير نظام التصويت بالأغلبية على جولتين، اتحدت العائلات السياسية التي شكلت الهوية السياسية للمواطنين في كتلتين انتخابيتين. فكل مواطن، بغض النظر عن موقعه ضمن طيف القوى السياسية، من اليمين البونابرتي الاستبدادي إلى اليسار الشيوعي، وجد نفسه ممثلاً في الأغلبية أو في المعارضة. وهكذا تم دمج التطرف على الجانبين، في عمل النظام. وهذا النموذج، الذي كان مثالياً في كثير من النواحي، تحطم في غضون عقد من الزمن. فقد أدى انهيار الحزب الشيوعي وصعود الجبهة الوطنية اليمينية إلى تعطيل النظام التداولي بين اليمين واليسار، في حين ظهر مكوّن حزبي جديد، غير متجانس في حد ذاته.
وكان تفتيت النظام الحزبي مصحوباً بما يسمى "الانفصال"، إذ أصبح الناخبون أقل ارتباطاً بحزب معيّن. وهنا مرة أخرى، فقدت المتغيرات التي شكلت الانتماءات الحزبية (الانتماء الطبقي، والشعور الديني، والجنس، وما إلى ذلك) قوتها. والنتيجة هي تفتيت المشهد الحزبي مع تأكيد قوى سياسية متطرفة كانت محظورة في السابق، لكن وزنها الانتخابي استمر في النمو لمدة خمسة عشر عاماً تقريباً. ومع ذلك، فإن هذه القوى الموجودة في أقصى اليمين أو أقصى اليسار هي نفسها غير متجانسة ومليئة بالتناقضات والانقسامات. وتكاثُر المرشحين خلال الانتخابات الرئاسية هو الترجمة المباشرة لذلك. فمن ستة مرشحين في الانتخابات الرئاسية عام 1965، ارتفع العدد إلى ستة عشر مرشحاً في عام 2002. وبالتالي، فإن نمو العرض الانتخابي يرافقه انقسام في النظام الحزبي، تحت تأثير طريقة التصويت: من ناحية الأحزاب التي تهدف إلى الحكم، ومن ناحية أخرى تلك التي تقتصر على وظيفة احتجاجية. فقد أدت الآثار التراكمية لانهيار المشاركة الانتخابية وانهيار النظام الحزبي إلى ميل إلى تقسيم الناخبين إلى ثلاث مجموعات فرعية متساوية تقريباً: ثلث الناخبين يمتنعون عن التصويت، والثلث يصوت للأحزاب المستبعدة بحكم الأمر الواقع من هذه الممارسة من السلطة، والثلث يصوت أخيراً لأحزاب الحكومة. والنتيجة هي تضاؤل شرعية أولئك الذين يُدعون إلى الحكم. فالحكومة اليوم لا تمثل في أحسن الأحوال سوى ربع الناخبين المسجلين.
وهذا السخط حيال الذين يحكمون والأحزاب التي تدعمهم يشكل علامة بامتياز للطلاق الذي حدث بين النظام السياسي المؤسسي والمحكومين. ولذلك يبدو أن إعادة نسج الروابط التي تم إضعافها حالياً أمر ضروري. ضمن صياغة مؤسسات جديدة ضمن نظام سياسي جديد، يوسع من حالة التمثيل ويوسع من مجال السلطة، عبر كسر المركزية المفرطة جغرافياً في ما يتعلق بالحوض الباريسي، ومؤسسياً في مستوى الصلاحيات الهائلة الممنوحة للرئيس.
اليوم يجد الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه معزولاً في قصره. فقد خسر الرجل ثلاث محطات اقتراع متتالية خلال شهر واحد. وخسر معها جزءاً من السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. خلافاً لجميع أسلافه في الجمهورية الخامسة، أصبح ماكرون الرئيس الأقل حظاً في التمتع بالصلاحيات الملكية التي يمنحها الدستور الديغولي للرئيس، بوصفه مركز ثقل السلطة. فقد أصبحت فرنسا بعد السابع من تموز (يوليو) أقرب إلى الجمهورية البرلمانية، حيث يلعب البرلمان الدور الأساسي في تشكيل هوية من يحكم وكيف يحكم، فيما لم يعد للرئيس دور مركزي في تحديد ذلك. فما تعيشه فرنسا اليوم ليس تعايشاً كالذي عاشته قبل ذلك نهاية الثمانينات والتسعينات، ولكنه تفكك للمركزية الرئاسية المفرطة للسلطة. وهو على نحو أكثر دقةٍ توجه عام، يجمع بين إرادة شعبية ونخبوية في الوقت نفسه، يريد طي صفحة فرنسا الرئاسوية، والعودة إلى نظامها البرلماني والمضي به إلى الأمام. ومن الواضح أن مسارات الإصلاح مليئة بالمزالق التي تؤدي بشكل مشروع إلى التشاؤم، كون هذا النظام الدستوري لا يعبّر فقط عن أزمة النظام السياسي، ولكنه أيضاً تجلٍ لأزمة الرأسمالية الفرنسية بجناحيها، القومي الحمائي، والأوروبي العولمي.