تصويت الفرنسيّين... محاولة للفهم!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
عادل بن حمزة
عرفت الجولة الثانية من الانتخابات التشريعية الفرنسية الأخيرة نسبة مشاركة قياسية بلغت 66.7%، وهي أعلى نسبة مشاركة منذ الانتخابات التشريعية لعام 1997 التي أجريت بعدما حل الرئيس الراحل جاك شيراك الجمعية الوطنية، وسجلت نسبة مشاركة بلغت 71.8%، بينما سجلت في انتخابات 2017 و2022 مشاركة نصف الناخبين المسجلين فقط.
ارتفاع نسبة المشاركة في الدور الثاني كانت حاصل التعبئة الوطنية الواسعة التي كانت مؤطرة بشعار واحد هو قطع الطريق على "التجمع الوطني" اليميني المتطرف، كما أن واقع الصدمة الذي شكله صعود هذا اليمين، سواء في الانتخابات الأوروبية أم في الدور الأول من الانتخابات التشريعية، شكل عامل تحريض وظفته القوى اليسارية في "الجبهة الشعبية الجديدة" والتحالف الرئاسي، بالإضافة إلى تيار من الجمهوريين لمنع مارين لوبن من حصد أغلبية مطلقة أو حتى من تصدر النتائج. ولأن اليمين المتطرف بلغ أقصى ما يمكنه من تعبئة في الدور الأول وهو منتش بنتائج انتخابات البرلمان الأوروبي، فإن الأصوات المناهضة له هي التي كانت عالية وحاسمة حتى خلافاً لاستطلاعات الرأي، لذلك يمكن اعتبار فوز اليسار بالصدارة أمراً طبيعياً بينما المفاجأة الحقيقية كانت فوز التحالف الرئاسي بالمركز الثاني.
كرست نتائج الانتخابات نهاية الثنائية الحزبية في فرنسا وفي الوقت نفسه تعدد صيغ اليمين واليسار، فليس هناك تيار سياسي يملك الأغلبية في الجمعية الوطنية، والدستور يقيد الرئيس في ما يتعلق بلجوئه ثانية إلى حل البرلمان، إذ لا يحق له ذلك إلا بعد مرور سنة، وهو ما يجعل المشهد السياسي معقداً بالنظر إلى الاختلاف والتباين في الأفكار والبرامج بين مختلف التيارات السياسية. النتيجة الحتمية لهذا الوضع هي دخول فرنسا في حالة عدم الاستقرار الحكومي، وهو ما يعود بنا إلى الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي عندما أدى ذلك سنة 1958 إلى نهاية الجمهورية الرابعة ذات الطابع البرلماني بفضل السقوط المتوالي للحكومات، عبر استفتاء دستوري (4 تشرين الأول /أكتوبر 1958) قاده الراحل شارل ديغول الذي سيتولى منصب الرئيس في نظام الجمهورية الخامسة، حيث منح الدستور للرئيس اختصاصات مهمة وولاية رئاسية من سبع سنوات. فرنسا اليوم يبدو أنها في اتجاه إحداث تغيير جوهري في طبيعة النظام السياسي بفضل هندسة دستورية جديدة تفضي إلى قيام جمهورية سادسة، إما في اتجاه إعادة إرث النظام البرلماني أو في اتجاه النظام الرئاسي على الطريقة الأميركية.
لكن هل يمكن اختصار كل أزمات النظام السياسي في فرنسا في هيكليته الدستورية؟ أم أن تفسير ما يحدث له أبعاد أخرى ثقافية واجتماعية تطورت تطوراً مشوهاً، ليس فقط في فرنسا، بل في الغرب ككل بما يحمله ذلك من مخاطر جدية؟
يقول المفكر الفرنسي إيمانويل تود الذي تنبأ بسقوط الاتحاد السوفياتي في جواب عن سؤال لمجلة LE POINT الفرنسية خلال حوار أجرته معه عقب الدور الأول من الانتخابات التشريعية (4 حزيران /يونيو 2024) بخصوص الخطر الرئيسي الذي يراه الآن في ما يخص فرنسا: "تطاردني أمثلة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة وما بعد ترامب في الولايات المتحدة. في تلك البلدان، وبفضل التغيير السياسي، كان يجب أن نكون قد أدركنا خطورة التصدع الاجتماعي والثقافي وبدأنا التفاوض على حياة جديدة معاً في أمة أعيد تشكيلها. لكن الأحقاد الداخلية تزداد سوءاً في الواقع: الطبقية والعرقية والنزعة الدينية... سيكون السؤال هو نفسه بالنسبة إلى فرنسا، أياً كانت نتيجة الجولة الثانية. لن يكون أي خلاص اقتصادي ممكناً من دون إعادة توحيد الأمة". وأكد أن فرنسا "تشهد ظاهرة يبدو أنها مشتركة بين الدول الثلاث الكبرى التي أسست الديموقراطية الليبرالية: بريطانيا العظمى والولايات المتحدة وفرنسا. إنها تشهد لحظة ترامب الخاصة بها، لحظة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكسيت)، وهي ليست صعوداً للشعبوية بل بداية نهاية الديموقراطية الليبرالية الكلاسيكية. والظاهرة الأساسية هي انهيار التوافق الديموقراطي الذي تولد من محو الأمية الشاملة. من خلال التعليم الابتدائي، باختصار. لقد أنتج تطور التعليم العالي (من صفر إلى 40% من جيل واحد، بحسب نوع المقياس) طبقة عليا من المجتمع قادرة على العيش في عزلة، مع شعور بالتفوق سمح لها بالاعتقاد أن أحلامها الأيديولوجية هي الوحيدة المعقولة: أوروبا، التجارة الحرة، التقدمية الاجتماعية، الهجرة. والأكثر عمقاً هو أن التعليم العالي الشامل قد دمر المصفوفة الدينية الأصلية... إن مستوى التعليم هو الذي أصبح الآن، بالنسبة إلى جميع مستطلعي الرأي، أفضل محدد للتصويت. تحدث لحظة "ترامب-بريكست-الجبهة الوطنية" عندما يرتفع استياء الأقل تعليماً إلى قمة المجتمع، وغالباً ما يكون ذلك بسبب الفشل الاقتصادي للمشروع النيوليبرالي الذي بدأ يخفض مستوى العيش في الطبقات الوسطى".
بهذه الصورة العميقة يحلل إيمانويل تود مآلات السياسة والانتخابات ونتائجها على المستوى البعيد، إذا لم يتم تدارك جوهر الأزمة، هذه التخوفات التي أطلقها تود تؤكد إلى حد كبير تلك المخاوف التي تسربت عقب رد فعل مارين لوبن التي لم تعتبر حزبها خاسراً، فقط تأجل فوزها بفضل تصويت تكتيكي، هذا القول يفيد بأن معركة كسر العظام مستمرة وأن ما دخلته فرنسا من عدم استقرار سيضعف المؤسسات والاقتصاد وستكون له تبعات على الحياة العامة للفرنسيين، ما سيقوي مصداقية خطاب اليمين المتطرف، وبالتالي تهيئة أسباب وصوله إلى السلطة.