عنف شوارع بريطانيا وضعف النظام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ربما تصور البعض أن خروج الآلاف من البريطانيين المناهضين للعنصرية إلى شوارع مدن بريطانية، بما فيها العاصمة لندن، يوم الأربعاء السابع من أغسطس/آب أفشل خطط اليمين المتطرف والنازيين الجدد في استمرار عنفهم الذي تصاعد خلال أسبوع قبل ذلك اليوم. ذلك العنف الذي انصب على رجال الشرطة، إضافة طبعاً إلى حرق السيارات والممتلكات العامة، الذي اندلع نتيجة ترويج أكاذيب وتلفيقات على مواقع التواصل من قبل عناصر معينة، بأن حادث طعن صبي لأطفال في مدينة ساوثبروت ارتكبه مهاجر مسلم. رغم أن القضاء البريطاني قام بإجراء غير مسبوق بالكشف عن هوية متهم قاصر، ليعرف أنه بريطاني مولود في البلاد ومن أسرة تواظب على الذهاب إلى الكنيسة، إلا أن أعمال العنف لم تتوقف وسط شعارات معادية للمهاجرين وللمسلمين. وركب بعض السياسيين من اليمين، واليمين المتطرف الموجة وتوالت تصريحاتهم العنصرية التي أججت الاحتجاجات والعنف. السلطات البريطانية سارعت إلى اتهام «جهات خارجية»، في مقدمتها روسيا طبعاً، بالوقوف وراء التحريض على العنف بالكذب والتضليل. قد يكون هذا صحيحاً إلى حد ما، لكنه ليس جذر المشكلة. المحرض الرئيسي بريطاني مدان هارب من العدالة يعرف باسم تومي روبنسون (واسمه الحقيقي ستيفن ياكسلي-لينون) سبق أن روج اتهامات كاذبة ضد صبي تعرض للعنف في مدرسته من قبل صبي من عائلة معروفة بتوجهها العنصري. ورفع الصبي من أصل سوري قضيه أدين فيها روبنسون وحكم عليه بتعويض مالي كبير. لكنه لم يتوقف عن ترويج الأكاذيب والتضليل.كثرت المعلومات منذ بدء الاضطرابات والعنف عن ارتباطات روبنسون بالعنصريين الأمريكيين الذين كانوا وراء الهجوم على الكابيتول مطلع 2021، وكذلك علاقته بشخصية عنصرية أوروبية شهيرة وحتى بجماعات يهودية في بريطانيا وغيرها. وكتب أحد المعلقين المعروفين عن أنه منذ بدأت تظاهرات ضد الحرب على غزة في بريطانيا يعتمد الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين على روبنسون ومجموعة أخرى من نشطاء مواقع التواصل لترويج الأكاذيب والتلفيقات ضد تلك التظاهرات.لم يقف التحريض عبر الإنترنت على تومي روبنسون وأمثاله، بل شارك فيه زعيم اليمين المتطرف البريطاني نايجل فاراج من اللحظة الأولى، مستمداً دفعاً من كونه أصبح للمرة الأولى عضواً في البرلمان في انتخابات الشهر الماضي. كذلك ما زال أيلون ماسك يشارك بترويج الأكاذيب والتلفيق عبر منصته للتواصل. لم تنته مشكلة العنف في بريطانيا ضد المهاجرين والمسلمين وضد الشرطة وغيرها بفشل محاولة إشعال المدن يوم الأربعاء المذكور، فجذر المشكلة موجود، والمحرضون العنصريون في زيادة وقدرة النظام السياسي وبيروقراطية الدولة على مواجهة المشكلة في تراجع.*أولاً، هناك مشكلة هجرة في بريطانيا بكل تأكيد وهي تتفاقم ليس مؤخراً، ولكن منذ توسع الاتحاد الأوروبي نهاية القرن الماضي. ولا تقتصر المشكلة على المهاجرين وطالبي اللجوء من دول آسيوية وإفريقية اشتعلت فيها الحروب، وأغلبها بسبب سياسات بريطانيا والغرب في العالم. بل إن المهاجرين من دول أوروبا الشرقية والوسطى إلى بريطانيا كانوا السبب الذي جعل البريطانيين يصوتون في استفتاء الخروج من أوروبا (بريكست) قبل ثماني سنوات. لم تفلح سياسات الحكومات المتعاقبة، من حكومة توني بلير حتى الآن، في إصلاح نظام الهجرة واللجوء. ولم يكن سبب المشكلة قوانين أوروبية كما روج كذباً أنصار بريكست من بوريس جونسون وجماعته، بل فشل الحكومات البريطانية وأداراتها في إصلاح النظام. ولما لم يحل البريكست مشكلة الهجرة كما ادعى المضللون، بدأت حكومات المحافظين من بوريس جونسون ومن تلاه بإلقاء اللوم على الناس هرباً من فشلهم. أدى ذلك بالطبع إلى سيادة خطاب أقرب للعنصرية عززه أيضاً صعود اليمين المتطرف في الغرب عموماً، وتشجع أنصاره في بريطانيا. وهذا ما جعل قيادات اليمين المحافظ يزايدون على المتطرفين في تصريحاتهم وخطابهم السياسي. كل ذلك أدى إلى تهيئة مناخ عام يسمح للتطرف والعنصرية بالنمو والترعرع. من أبرز السياسيين الذين ساهموا في ذلك وزيرتا الداخلية السابقتين بريتي باتيل وسويلا بريفرمان، إضافة إلى وزير الهجرة السابق روبرت جنريك، والمرشحة حالياً لرئاسة حزب المحافظين كيمي بادنوك. وهكذا تضافر ضعف النظام في مواجهة مشكلات البلاد، بما فيها مشكلة الهجرة غير الشرعية، مع خطاب أقرب للعنصرية من سياسيين بارزين في حزب المحافظين على تقوية صعود اليمين المتطرف والجماعات العنصرية الهامشية. لا ينفي ذلك بالطبع استغلال عناصر، محلية وخارجية، لتلك الأجواء لبث الفتن وإشاعة مناخ تضليل وتزوير، بغرض إشعال العنف. لكن تلك الأصوات المارقة ما كان لها أن تجد صدى بين ملايين الناس في بريطانيا، لولا تفاقم جذر المشكلة ومزايدة السياسيين الذين فشلوا في مواجهتها على اليمين المتطرف. لهذا، لا يمكن التفاؤل بأن رفض أغلبية الشعب البريطاني للعنصرية والعنف كاف وحده لوأد تلك الفتنة، طالما أن أسبابها الحقيقية لم يتم التعامل معها. وهناك شكوك في قدرة حكومة حزب العمال الجديدة على معالجة جذر المشكلة، وحتى اللجوء للحلول الأمنية والقضائية الصارمة لن يقضي على هذا التيار الصاعد فعلاً في البلاد، وتتجاوز خطورته إعمال الشغب والعنف.