جريدة الجرائد

أسئلة التحوّلات بعد انهيار التخادم الوظيفي بين إيران...

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

سمير التقي

الحقيقة الوحيدة الثابتة في التاريخ الاستراتيجي إنه دائم التبدل.

قد يمتد الجمود والعفن طويلاً في إقليم ما، ليبدو التفسخ والموت البطيء قدراً لا مناص منه. لكن، عند لحظة محدّدة، يتكثف التاريخ ليكسر غلبة القديم، ويفكّك عناصر الركود، ويعرّي غطرسته، بشكل مدهش.

فلقد كشفت حرب عام 1967 هشاشة النظام والدولة الوطنية العربية، لكنها فتحت الأبواب لإرهاصات عاصفة وكوارث كبرى، بدءاً من "أيلول الأسود"، ثم "حرب تشرين"، ثم اتفاقيات السلام وفصل القوات، ثم الحرب الأهلية اللبنانية... إلخ.

في حينه، لم يكن القادة البعثيون الذين استلوا، من دمشق، سيوفهم العصماء وأشهروا خطابهم الظافري "للقضاء على الكيان الصهيوني" على دراية بما سيجلبونه على أنفسهم وشعوبهم والمنطقة كلها.

لكن أزمة الإقليم لم تنتهِ بتلك الكوارث التي أصابت العرب أساساً، بل يبدو أن دور دول أخرى قد حان.

فلقد استبطن تأسيس دولة إسرائيل فصاماً عميقاً في شخصية الدولة، بين كتلة ثقافية فكرية وسياسية علمانية تبغي، في جوهرها، بناء تجربة حياة ناجحة للشعب اليهودي، وبين كتلة عصبية أيديولوجية مسيانية عنصرية.

تعايشت الكتلتان في لحظات الصعود، لكن ما إن ساد الركود حتى تفجّر الصراع. وبانتهازيته النموذجية، حاول بنيامين نتنياهو جسر الهوة بين طرفي الفصام الداخلي، ظاناً أن بإمكانه الجلوس طويلاً على بركان فلسطين والفتك بهؤلاء "الغوييم" (الهوام) الفلسطينيين والعرب، لكنه يفشل بشكل ذريع.

في الخندق الآخر، استبطنت الثورة الإسلامية الإيرانية منذ نشوئها ازدواجية بين بنية الدولة المدنية وبين النمو السرطاني للباسدران كقوة ثورية ميليشياوية، تعمل من خارج الدولة، وتكون مهمتها ضبط الداخل خارج القانون، وتوسيع نفوذ إيران في الإقليم. لكن ما حصل بالفعل هو أن هذه القوى الثورية استمرت في نخر بنية الدولة حتى النخاع، واستولت على موارد هائلة بذريعة تصدير الثورة. وفيما كان علي خامنئي يستمتع باختراق الزمن العربي وتفكيك دوله ومجتمعاته باسم فلسطين، لم تُبدِ إسرائيل مقاومة للرقصة الإيرانية المديدة وهي تتسلّل إلى جسد لبنان، ثم تتقاسم جسد العراق مع الأميركيين، لتستكمل هيمنتها على سوريا.

في جوهره، لا يختلف هذا الفصام البنيوي في بنية السلطة الإيرانية عن الاستبطان المؤسس لدولة إسرائيل.

لكن العبرة في كل ذلك تمثلت في ذلك التخادم الذي تأسّس بين الطرفين منذ "إيران غيت". العامل المشترك الذي جسر التوافقات بين المشروعين هو إخراج العرب من المعادلة الاستراتيجية، وتكريس خطاب الحلول الصفرية الإسرائيلية والإيرانية، وتأبيد الحريق في الإقليم على نار خفيفة، من دون السماح لأن يؤدي العداء العارم إلى أكثر من مناوشات تجري ضمن خطوط إيرانية حمر تقابلها اسرائيل بقص العشب.

أتاحت هذه المعادلة منافع جمّة للطرفين لتقطع كأسنان المنشار، رابحاً صعوداً، ورابحاً نزولاً.

لكن، كي تنجح هذه اللعبة، كانت تشترط أصلاً ألّا يصل المسيانيون العقائديون إلى سدّة القرار في أي من الدولتين. فعندها، لا يعود التخادم ممكناً، بل حرب "داحس والغبراء" في سباق العقائديين إلى تحقيق "وعدهم المسياني الصادق"، واستحضار مخلّصهم المنشود.

لكن، ما حصل في كل من إسرائيل وإيران كان عكس ذلك تماماً! ولم يدم التعايش والفصام الداخلي طويلاً في كلا البلدين. واقتحم العقائديون ساحة القرار، وأبعدوا البراغماتيين الذين صمموا لعبة التخادم أصلاً. وبذلك، انكسر الشرط المبدئي للعبة التخادم.

تكشف الأحداث بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) بشكل باهر انكسار المعادلة. فلقد فجّرت معها استراتيجيات الخطوط الحمر الإيرانية، واستراتيجيات قص العشب الإسرائيلية، لتهز التناقضات الإقليمية من أعماقها، وتفتح تحولات إقليمية واسعة، لم نر منها بعد إلّا رأس جبل الجليد.

منذ "7 أكتوبر"، لم يتمكن نتنياهو من رأب الثقب العميق في ردعه الاستراتيجي، ولا كان قادراً على تغيير سياق الصراع. ولم يحلّ تفوقه العسكري معضلة الحرب اللامتناظرة مع الفلسطينيين، ولا معضلة محيطه الإقليمي الذي يضغط من أجل "حلّ الدولتين". فالمزيد من القتل لا يبدّل في المأزق شيئاً، وتلك كانت تجربة جنوب أفريقيا والجزائر وكينيا وغيرها كثير.

بدوره، انكشف الثقب في الردع الاستراتيجي الإيراني. فإيران لم تتحسّب ليوم تصبح فيه المجابهة بينها وبين إسرائيل مباشرة ومديدة، عندها لا تملك أذرعها إلّا الدعم والمشاغلة، ليدرك الطرفان متأخّرين استحالة العودة إلى زمن التخادم المستتر.

في "7 أكتوبر"، كسرت إيران مزراب العين الذي شربت منه حتى الثمالة منذ "إيران غيت"، بقدر ما كسرته إسرائيل باغتيال ضباط الحرس الثوري في دمشق، ثم اغتيال فؤاد شكر في ضاحية بيروت، ثم إسماعيل هنية في طهران. ونستطيع أن نؤكّد بثقة أن لا جو بايدن ولا كامالا هاريس، ولا حتى دونالد ترامب، قد قدّموا لنتنياهو بطاقة بيضاء بدعم هجوم استراتيجي إسرائيلي رادع ضدّ إيران.

لذلك، يمكن القول ان لا إسرائيل ستكون قادرة على شنّ هجوم استراتيجي بمفردها يردع إيران، ولا إيران قادرة على شنّ هجوم استراتيجي رادع على إسرائيل، خصوصاً في ظل الغطاء الأميركي الصارخ لحماية وجود الدولة العبرية.

لا تكتمل لوحة التفسخ المدهشة هذه من دون أن نلاحظ كيف تطفو الأزمات المستعصية، في كلا الدولتين العليلتين.

في إسرائيل فوضى عارمة، وسموتريتش يهدّد، ويتشاجر نتنياهو مع غالانت، ويهدّد بإقالته... إلخ، وتهرب النخب العلمية والثقافية، وينخفض تقييم الاقتصاد الإسرائيلي.

وفي إيران، يُقتل الرئيس المتشدّد إبراهيم رئيسي في تحطّم طائرة، ثم يُنتخب رئيس معتدل، لكن سرعان ما يستقيل محمد جواد ظريف في خيبة واحتجاج نادر من زعيم إصلاحي تاريخي، ليترك الساحة لعقائديي الباسدران.

لا يوحي هذا الواقع بأي قدر من التوازن، والاحتمالات الأكثر كارثية لا تزال ماثلة، خصوصاً بعد زيارة المسؤول الأمني الروسي سيرغي شويغو لطهران. فلقد اتفق الطرفان على تزويد إيران بمنظومات متطورة للدفاع الجوي وتصدير الصواريخ الإيرانية لدعم حرب روسيا في أوكرانيا.

السؤال المطروح، خصوصاً بعدما أكّدت المملكة العربية السعودية والأردن رفضهما أن تصبح أجواؤهما معبراً للتراشق الصاروخي بين إسرائيل وإيران: كيف ستتصرف، هذه المرّة، الدفاعات الجوية الروسية تجاه عمليات الطيران الإسرائيلي فوق سوريا ولبنان؟ واحتياطاً لذلك، ها هي الولايات المتحدة مع الدول الغربية الرئيسية تؤكّد حماية إسرائيل من الضربات الإيرانية.

مع احتدام هذه المخاطر الهائلة، يدخل إقليمنا لحظة انعطافية، ستفكّك الكثير من بنتيه، لكنها قد لا تنتج حلولاً لعقدة الحروب الدينية في الشرق الأوسط. فحكمة التاريخ تقضي أن يخرب القديم، لكنها تترك للبشر أن يصوغوا ملامح جديدهم.

فهل لنا أن نتفاءل؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف