الحقيقة!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
كلما تطورت تكنولوجيا الاتصال وثورة المعلومات، أصبح الإنسان أسيراً للهواجس، ورهينة للقلق، خاصة إذا كان ممن ينشغلون بالشأن العام والقضايا السياسية ومتابعة المستجدات، فإذا لم يضع لذاته استراتيجية للمتابعة، وقام بتنظيم وقته سيغرق لا محالة، وشيئاً فشيئاً سيجد نفسه مضطراً للانحياز، أو تبني وجهة نظر، أو الإيمان بفكرة أو عقيدة أو أيديولوجيا. وهذا الانحياز، أو لنقل اعتناق الفكرة والتوجه، سيؤدي به إلى الانخراط عميقاً في المشهد، وسيصبح جزءاً منه، وبالتالي، سيخلق له أعداء بالضرورة، فالوسطية والاعتدال لا تتماشى مع الإيمان القطعي بالفكرة، الذي يقود إلى قناعة إيجاد الحقيقة، والتي تقود بدورها إلى فرز الآخرين ما بين مخطئ ومصيب، أو مؤمن وكافر، أو تقي وعربيد، أي يصل هذا الإنسان إلى الإيمان بالعصبية، يتعصب للقبيلة، أو للحزب، أو للدين، أو للمذهب، أو للدولة، ونهايات التعصّب غالباً ما تكون وخيمة؛ لأنها تجبر صاحبها على القتال، أو الكفاح، أو النضال، وهي مفردات تؤدي جميعها إلى العنف، أي القتل، أي الضحايا، أي الدمار.هذه عقلية الإنسان الذي يعتقد حصوله على الحقيقة واكتشافها، بينما الحقيقة في الأصل حقائق، وأكبر الجهلة من يظن نفسه قد أحاط بالعلم، والحقيقة. من هنا يشجع التربويون الحديثون على القراءة، قراءة الحالة، المشهد، الأزمة، والتعرّف إلى وجهات النظر الأخرى، والرؤى الأخرى، والمواقف الأخرى، ولا يصادرها تحت أي ذريعة كانت، بل يلجأ إلى تمحيصها، ومحاورتها، والإنصات إليها، مهما كانت مختلفة معه، ولا يتركها إلا بعد هضمها واستيعابها، وقراءتها وغربلتها، ليصل في النهاية إلى تصوّر أو قناعة من دون اللجوء إلى مصادرة قناعات الآخرين.الانحياز الكلي أو التطرّف، لا يقتصر على القضايا السياسة والانتماءات المختلفة، بل يطال أصغر الأمور الحياتية، ابتداء من كيفية أداء التحية ولمن تُؤدى، مروراً بالتعامل مع المرأة، ثم تربية الأطفال، ثم التعامل مع الثقافات الأخرى، وصولاً إلى الدين. وتكاد تكون جميعها مغلّفة بالعصبية الدينية أو التطرف الديــــنــــي. فالإنســـان المعتدل معتدل ووسطي في كل شيء، والإنسان المتطرّف متطرّف في كل شيء، لكن درجت فئة من البشر، على أن تغاير مواقفُها المعلنة مواقفَها الحقيقية، تجنّباً للاصطدام مع الآخر معلّلة بعدم توفّر الظروف، وهــــــذا هو النفاق الحقيقي، ويمارسه كثيرون، وهكذا تتعدد أنماط الشخوص، وهؤلاء أشبه بالخلايا النائمة، ويشكّلون خطراً على مجتمعاتهم وأوطانهم.المسألة كلها تبدأ منذ الصغر، حين يتعرّض الطفل لمعلومات معيّنة، تؤثّر في سلوكه ومواقفه، وتبدأ بالظهور في مواقف متعدّدة، من هنا، يجب مراقبة الأطفال وما ينطقون ويتفوّهون، وعدم أخذ الأمر على محمل المزاح أو المزاج. وعلى أولياء الأمور إدراك أن الغيرة والحـــــشمة شيء، والتعصّب والتطرّف شيء آخر. وبالنسبة لنا، قد يكون معيار تعصّب الولد في البيت من خلال التعامل مع أخته، مع النوع الآخر، هنا تظهر قيمه بشكل مباشر، التي قد تنبئ بما سيصبح عليه في المستقبل، إلا إذا تعرّض للتعامل مع بيئات مختلفة واطلع بشكل حر، وفي كل المجالات والاتجاهات، أو أُصيب بصدمة ما زلزلت كيانه كله. ولو تتبّعنا شخصيات المتطرفين والمتعصبين لوجدنا أنهم كانوا يحملون تلك القيم والأفكار في طفولة مبكّرة، ونحن هنا لا نقول إن هذا الأمر ينتقل وراثياً، فهو ليس طبعاً يولد معه؛ لأن معظمه مكتسب من المدرس، الصديق، الإعلام، والمحتويات المحرّضة، وبشكل عام من الآخر، ويمكن اعتبار الآخر في أيامنا هذه، الوسيلة التي يقضي الطفل معها ساعات طويلة، ولها جاذبية لا يقاومها خيال الطفل، وهي باختصار المنصات الإلكترونية، التي تنشر ما بدا لها، ونادراً ما نجد منصة أو وسيلة إعلامية غير موجّهة.إن ما يتلقاه الطفل في المدرسة، غير كافٍ أبداً، فهناك المجتمع الشبيه، أي الصديق أو الموازي، المكوّن من زملاء يحملون أجهزة خلوية، ومنهم من يسمح له أهله بالإبحار في المواقع من دون رقابة أو توجيه، وعلى ذكر المدرسة، هناك مؤسسات تعليمية تتعمّد نشر الأفكار المختلفة، التي تتعارض مع منظومة قيم شريحة من التلاميذ، لاسيّما إذا كانت تستقبل أفراداً من جنسيات عربية وأجنبية.ما سبق يعيدنا إلى إشكالية يعانيها النظام التعليمي، وقد يعاني المتلقي معاناة أكثر، والإشكالية الأخرى أننا في عصر لا يسمح بالتدخل ومراقبة المؤسسات التعليمية، التي تحوّل جزء منها إلى مؤسسات تبشيرية، وليس بالضرورة التطرق مباشرة إلى التبشير الديني، بل يكفي إشاعة وتشجيع سلوكيات معيّنة، كي تكون تبشيرية.بدأنا بالسياسة ووصلنا إلى التعليم، وفي الحقيقة، لا يخلو أي مجال من مجالات الحياة من السياسة؛ لأنها السبب والمسبّب لكل صغيرة وكبيرة في الحياة.