«النصف الحلو»
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
د. حسن مدننقرأ لبعض الأدباء قولهم إنهم يكتبون لأنفسهم في المقام الأول، ولا يشغلهم كثيراً أمر القارئ أو المتلقي لما يكتبون، وهو قول لا يمكن وصفه بالخاطئ بشكل مطلق، فلعلّ الوعي السائد في المجتمعات المختلفة، يجد في ما يكتبه هذا الكاتب أو ذاك خروجاً على ما هو مستقر من أفكار ومفاهيم وتصورات، وإذا كانت غاية الكاتب النهوض بمجتمعه وبالفكر في وطنه أو أمته، فإن عليه التحلي بجرأة تجعله يصدم ما هو مستقرّ من أفكار، أصبحت عائقاً في وجه نهوض الأمة المعنية.وفي تاريخ فكرنا العربي، قديمه وحديثه، أمثلة لا تحصى من فلاسفة ومفكرين استفزّوا السائد، لكن فكرهم رغم ذلك صمد وأحدث التغيير المنشود، رغم أن ما نالهم من الأذى في أزمنتهم كان كبيراً. ألم يُصلب الحلاج قبل ضرب عنقه، كما تعرض فلاسفة آخرون للتكفير والإساءة، بينهم جابر بن حيان، والكندي، وابن سينا، والفارابي، والرازي، وابن رشد وغيرهم، وفي عصرنا الحديث لا يمكن نسيان ما تعرض له طه حسين من هجوم بعد صدور كتابه عن الشعر الجاهلي.هذا الجانب يصحّ أكثر على مجال الفكر والفلسفة، وإن كان، في بعض أوجهه، يطال الأدب أيضاً، ومن ذلك ما نالته من هجوم روايتا «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ، و«وليمة لأعشاب البحر» للأديب السوري حيدر حيدر، لكن لو تأملنا في أمر ردود الفعل تجاه هاتين الروايتين وسواهما لوجدنا أنها ليست ردود فعل جمهرة القراء، بقدر ما هي تدبير من جماعات لا تطيق الفكر المختلف، ولو أن الأمر تُرك للقراء وحدهم لكانت هذه الأعمال مرّت بهدوء، وبدون الضجيج المفتعل ضدها وضد كاتبيها.يقودنا هذا إلى ملاحظة أن زعم بعض الأدباء أن القارئ لا يهمّهم حين يكتبون، تنطوي على مقادير من الاستعلاء والادعاء، فلمن يكتب الكاتب إذاً، إذا كان القارئ لا يهمّه، دون أن يعني ذلك مجاراة مزاج القارئ، وإنما التمكن من مخاطبته بلغة وأسلوب يشدّانه إلى قراءة ما كتب، وبالتالي استخلاص ما أراد إيصاله من رسالة تتضمنه.أجمل وصف لعلاقة الكاتب بالقارئ هو ذاك الذي قرأته للأديب المصري أحمد الخميسي حين قال «إن القارئ هو النصف الحلو الذي يتمم الكاتب». وبالنسبة له، ككاتب، فإن القارئ شكّل على الدوام الوجه الوحيد المجهول الذي يقيم له وزناً. يقول الخميسي: «عندما أكتب أتخيّل دوماً أن ثمة عينين تراقبان ما أسطره، وإن ثمة قارئ يلحّ عليّ أن أكتب الحقيقة.. قارئ لا أعرفه، لا أعلم ماذا يعمل، وكيف يُفكّر، لكني أعلم أنه في مكانٍ ما يراقبني، وحينئذ أتذكر عبارة الروائي العراقي غائب طعمة فرمان: (أوصيتك يا قلمي ألا تخون ضميري)».