فلسفة الأواني
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سهوب بغدادي
يعرف الـ«راكو» Raku في اليابانية كنوع من الفخار الذي يستخدم تقليديًا في احتفالات الشاي والمراسم الخاصة، إذ يتم تشكيله باليد وتكوينه على نار هادئة، ومن ثم يترك ليجف في الهواء الطلق، فتكون النتيجة جميلة ولكن غير مثالية من ناحية انحناءات كل قطعة وتعرجاتها، كذلك هناك فن ياباني قديم يدعى «كينتسوغي» kintsugi وهو فن الترميم أو التوصيل بالذهب؛ بهدف إصلاح الخزف المكسور والأواني المنزلية من أكواب وصحون وما إلى ذلك، عن طريق توصيل القطع المبعثرة بمسحوق الذهب أو الفضة أو البلاتين، إذ يعتبر الجزء المكسور فلسفيًا بأنه جزء لا يتجزأ من تاريخ القطعة وليس عيبًا يجب التخلص منه أو محاولة إخفائه، بل تصبح قيمة القطعة أعلى معنويًا نظير التاريخ والوقت والجهد المبذول لأجلها، فضلًا عن السعي الحثيث من صاحب القطعة على إبقائها لأطول مدة وعدم استبدالها على وجه السرعة.
حقيقة، أرى أن الفن جميل وفريد من نوعه، إلا أنه يعكس رمزية في غاية الأهمية في حياة الإنسان، إن كل إنسان بمثابة وعاء، فكل وعاء مختلف عن الآخر في لونه وتكوينه وشكله وانحناءاته، ويملأ فيه تجاربه ومشاعره ومحطات حياته، ثم يتعرض هذا الوعاء للمؤثرات الخارجية، والتقلبات والانكسارات، فمنا من يجمع شتاته بعد كل خيبة ونائبة، ومنا من يتغافل عن بعض قطعه المركونة في الزاوية المظلمة، والبعض الآخر يفضل المضي ناقصًا بهدف الاستمرار فقط، وهناك من يستعيض بقطع غيره لسد فجواته، فيما يكره البعض الوعاء بأكمله ويحاول تدميره أو إخفاء ملامحه الأساسية بفعل يديه وبملء إرادته.
في المقابل، نخفي هذه الشقوق عن بعضنا البعض، وننهي أي سبيل مؤدٍّ إلى مظاهر الاختلاف، ونرجو أن نكون بذلك محل التقبل والإعجاب والاندماج، إن كل شق وشرخ وكسر في الوعاء يمثل تجاربنا وخبراتنا الجميلة وما ينافيها على حد سواء، الأمر الذي يدعو إلى الفخر والاعتزاز بما مررنا به وتغلبنا عليه ثم واصلنا المسير، عندما يرتسم على جسد الأم آثار زاخرة دلالة على الحياة التي وهبتها لأطفالها، وعندما يفقد البطل أحد أجزائه دلالة على حمايته لوطنه وشعبه، وعندما ترتسم البسمة على محيا شخص صارع براثن الاكتئاب.
جميعنا نخلو من المثالية ولدينا قصص خلف تلك العروق المذهبة المبهرجة، ولكن من يستطيع أن يظهرها علنًا ويحكي ما أصابه حقًا؟ قد لا نستطيع التحدث أو التعبير، إلا أن الفرادة تبقى عنونًا للإنسان، ولا يسعنا إلا أن نقف احترامًا لكسورنا.