جريدة الجرائد

مناظرة ترامب وهاريس: أهميّة الشّخصية وخطورة الشّخصنة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

تحتد الحملة الانتخابية لكل من المرشحين للرئاسة الأميركية، الرئيس السابق الجمهوري دونالد ترامب ونائبة الرئيس الديموقراطية كامالا هاريس، على وقع الشخصية والشؤون الداخلية، لا سيما الاقتصادية والولاء لإسرائيل. الصين تراقب ولا تتدخل بصورة مباشرة في الانتخابات، أقله بطريقة واضحة أو بمواجهة علنية مع أحد المرشحين. روسيا دخلت المعركة من باب السخرية بلسان الرئيس فلاديمير بوتين الذي تهكّم على ضحكة كامالا هاريس وأعرب في الوقت ذاته عن دعمه لها. هذه السخرية رافقت المعركة التي تخوضها إدارة بايدن - هاريس ضد بوتين ترافقها إجراءات سلطات كل من البلدين ضد الآخر في فرض قيود على الوسائل الإعلامية، وسط اتهام أميركي لروسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية. كل هذه الأمور تبقى ثانوية نسبياً. الثلاثاء المقبل، 10 أيلول (سبتمبر)، يحمل في طياته أضعاف ما تستثمر فيه روسيا أو الصين أو إيران أو أي قضية أو نزاع. إنه يوم المناظرة بين دونالد ترامب وكامالا هاريس في بيتسبرغ في ولاية بنسلفانيا الفائقة الأهمية. هناك ستظهر ملامح المعركة الانتخابية وما ستؤول إليه في 5 تشرين الثاني (نوفمبر). الاستطلاعات ستلعب أدوارها الغريبة، لكن في نهاية المطاف، ليلة إحصاء الأصوات وحدها هي التي تحسم النتيجة.

بعض الديموقراطيين يدعو الجمهوريين التقليديين إلى دعم كامالا هاريس كي يتمكن الحزب الجمهوري من التخلص من دونالد ترامب وظاهرته. يقول هؤلاء إن من الضروري أن تكسب هاريس المعركة بفارق كبير في الأصوات كي لا يتمكن ترامب من تحدي النتيجة أو الانقلاب على العملية الديموقراطية. رأي هؤلاء أن من مصلحة الحزب الجمهوري الخلاص من دونالد ترامب ليستعيد سلطته وقدراته في الكونغرس التي أتى دونالد ترامب وانقضّ عليها، وبالتالي إن هذه هي فرصته وكامالا هاريس وسيلة خلاصه.

ليز تشيني ابنة نائب الرئيس الجمهوري في زمن جورج دبليو بوش الذي صادر الرئاسة لمصلحة المحافظين الجدد - نيوكونز - ديك تشيني، أعلنت عزمها على دعم كامالا هاريس هذا الأسبوع. ليز تشيني مشهورة بمعارضتها لدونالد ترامب وسط تأفف نحوها في صفوف الجمهوريين الذين ينقسمون إلى من يوافقها الرأي ومن يجدها مؤذية للحزب وابنة أبيها، لا سيما أنها كانت في أولى صفوف المتطرفين الذين أرادوا غزو العراق واحتلاله وتقسيمه. اللافت أن الرئيس الديموقراطي الحالي جو بايدن كان أيضاً من المعسكر الداعي إلى تقسيم العراق، وكتب مقالةً تشرح آراءه هذه.

العراق ليس مادة انتخابية كما كان في الحملات السابقة. فما بعد تدجينه بنزع سلاحه وبعقوبات غير مسبوقة، وما بعد تدميره بالحرب ثم احتلاله، بعد كل ذلك انقسم الأميركيون إلى من أعاد النظر وندم على دعم الحرب على العراق، وبين من أنكر أنه كان مع الحرب على العراق، لا سيّما في صفوف السياسيين والإعلام. واليوم، العراق مادة منسيّة، سوى لدى بعض صنّاع القرار الذين يدركون جيداً أن من سلّم العراق إلى إيران هو الولايات المتحدة الأميركية.

كما في شأن العراق، كذلك في شأن ليبيا. كانت ليبيا موقع فخر الرئيس الديموقراطي الأسبق باراك أوباما عندما أطاح، ليس فقط معمر القذافي، بل البلد كله، عبر التقسيم وعبر تنصيب الإخوان المسلمين الغالين على قلبه، إن كان في ليبيا أو مصر أو تركيا أو سوريا. أوباما لم يتخلّ عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي استفادت من الجمهوريين في البيت الأبيض قبل وصوله إليه. ما فعله هو أنه دعم الأصولية الشيعية في إيران والأصولية السنية في تركيا والدول العربية. وبهذا أخذ صفحة من كتاب السياسة الأميركية عام 1979 نحو كل من إيران وأفغانستان.

إن كانت هي الدولة العميقة أو الحزب في البيت الأبيض أو شخصية الرئيس بالذات، فإن صيت أميركا هو أنها تخون الرفيق في منتصف الطريق. سياساتها نحو العالم ليست فقط من أجل مصالحها الاستراتيجية، بل إنها قائمة على التدخل المباشر، إما لإطاحة حكومات أو على تمكين مجموعة عقائدية خطيرة دينية مثل التي تحكم في إيران، أو تلك التي انبثقت من أفغانستان برعاية أميركية مباشرة، فخرجت منها "القاعدة"، أو حرب العراق التي أدّت إلى ظاهرة "داعش" المدمِّرة.

الناخب الأميركي لا يتذكر، بل الأرجح لا يعرف أساساً، هذه الأمور المهمة لأنه لا يبالي ولأن الإعلام الأميركي بمعظمه - باستثناءات مهمة - إعلام سطحي وكسول وأناني ومنتم سياسياً، بينما تعريف الإعلام الأخلاقي هو عدم الانتماء لخدمة الموضوعية.

أما أن تصل الأمور الآن في تبادل التهم والإجراءات بين أميركا وروسيا إلى النيل من الوسائل الإعلامية ومن أفراد عقاباً على آرائهم تحت ذريعة عدم جواز التدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية، فإن ذلك يثير السخرية وكذلك القلق.

معظم الإعلام الأميركي يقف مع كامالا هاريس لأنه ضد دونالد ترامب بالأساس ويعتبره سيئاً لأميركا. في البدء كانت العلاقة بين ترامب وكبار الإعلاميين الأميركيين في منتهى الإعجاب المتبادل والصحبة، ثم تحوّلت في الاتجاه المعاكس، وبات هؤلاء في رأس الحربة ضد ترامب. في الماضي القريب كان الذين يرفعون راية كامالا هاريس اليوم من الإعلاميين وغيرهم، يتذمرون منها ويقولون - كما يدّعي ترامب - إنها شخصية عادية مترددة تفتقد بديهيات القيادة والذكاء.

كيف سيتعامل الإعلام التقليدي والإلكتروني والاجتماعي مع المناظرة التي تتخذ بعداً تاريخياً، لأنها تأتي بعد المناظرة الكارثية بين ترامب والمرشح الديموقراطي حينذاك جو بايدن، والتي أدت به إلى التنحي وفتح الباب أمام كامالا هاريس؟ هذا يعتمد كثيراً على الأداء.

السياسات بالتأكيد فائقة الأهمية، لا سيّما إذا تقدم أحد المرشحين بأطروحات جديدة تعالج الهموم الأميركية قبل السياسات الخارجية. لكن ما سيراقبه المشاهد الأميركي هو الأداء. أداء كامالا هاريس لأنها جديدة الخامة في إطار المناظرة، ولأن دونالد ترامب سيسعى إلى سحب البساط من تحت قدميها في أمور عدة وفي كل فرصة ليظهرها على أنها غير مؤهلة للقيادة. وأداء دونالد ترامب الذي قد يتهوّر في متاهات العنصرية والفوقية والتعالي على هاريس وعبرها على النساء.

كلاهما تدرّب على المناظرة. هاريس وُضِعَت في أيدي فريق بقيادة مستشارة باراك أوباما وهيلاري كلينتون السابقة كارين دان للتدريب على المناظرة. وأفادت التقارير بأنها قررت قضاء خمسة أيام وهي تضع استراتيجيات مع مستشاريها وتحضر المحاور. أما ترامب فإنه قد لا يخضع للتدريب التقليدي، لكن كبار مستشاريه ومستشاري الحزب الجمهوري يريدون له تجنب الهجوم الشخصي على هاريس والتركيز على نقاط ضعفها بدلاً من الهجوم على خلفيتها.

ترامب لمّح إلى أن لديه أطروحات جديدة لإنهاء الحرب الروسية في أوكرانيا، وهو سيحاول تناول الأمر بمنتهى الدقة والعناية كي لا يبدو للمشاهد الأميركي أنه ضد أوكرانيا ورئيسها فولوديمير زيلينسكي ومع فلاديمير بوتين. صحيح أن هناك تذمّراً من الاتفاق الأميركي الكبير لتمكين أوكرانيا في وجه روسيا، لكن ذلك لا ينفي أبداً الغضب الأميركي الشعبي من فلاديمير بوتين وحربه على أوكرانيا.

كامالا هاريس ستهاجم دونالد ترامب وتتهمه بأنه صديق الدكتاتوريين مثل بوتين، وستتباهى بإنجازات إدارة بايدن - هاريس لجهة توطيد الأواصر بين حلفاء شمال الأطلسي (ناتو) لمواجهة روسيا.

دونالد ترامب سيكرر أنه لو كان في السلطة لما وقعت حرب أوكرانيا أو حرب غزة، وسيقدم نفسه على أنه المرشح الذي لديه خريطة طريق لإنهاء الحرب الأوكرانية. هذا يعني أنه ينوي تقديم صفقة للطرفين بحيث يتوقف حلف الناتو - وفي مقدمته الولايات المتحدة - عن الدفع نحو دخول أوكرانيا عضواً في الحلف، من جهة، فيما يجد صيغة بين "وحدة" الأراضي الأوكرانية وهوية المناطق الروسية في أوكرانيا التي تقول روسيا إنها يجب أن تبقى تحت سيطرتها.

أما في موضوع إسرائيل وحربها على غزة، فلا شك في أن المرشحين سيتزاحمان على إبراز الولاء والدعم العسكري والمالي لإسرائيل، وسيتبادلان الاتهامات بخذل إسرائيل فيما يسعيان لضمان، ليس فقط الصوت اليهودي، بل التأثير اليهودي الكبير في الانتخابات الرئاسية. وهذا يتطلب منهما التشديد على إدانة "حماس" وما قامت به في 7 تشرين الأول (أكتوبر) وتعهد القضاء على "إرهاب" حماس وغيرها.

هاريس قد تتمسك بمواقفها الداعية إلى حق تقرير المصير للفلسطينيين واحترام كرامتهم وضرورة التنبه للكلفة الباهظة على المدنيين الفلسطينيين. دونالد ترامب سيتعهد الاستمرار بالاتفاقيات الإبراهيمية وقد يؤكد حصراً ضرورة تمكين إسرائيل من القضاء على "حماس" لإتمام المهمة، كما يقول. ترامب لن يلتزم بحل الدولتين كما قد تتجنب هاريس التبرع بدعم حل الدولتين لكنها ستؤكد الالتزام به كمبدأ إذا سُئِلت عنه.

فأميركا تتملّص عملياً من حل الدولتين لأنها لا تواجه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو به، علماً أنه وحكومته ومعظم الإسرائيليين يرفضون قيام دولة فلسطينية بجانب دولة إسرائيل. كل الكلام اليوم عن حل الدولتين يختلف كلياً عن معنى هذا الحل عندما وُضِع التصور له. فاليوم أصبح تعبير حل الدولتين فارغاً من أصله لأن قيام دولة فلسطينية جدية وحقيقية بات حلماً ووهماً آخر، ولأن دول العالم ليست جدية بشأنه.

قادة دول العالم، وربما شعوبها، ستجلس تشاهد وتصغي للمناظرة بين ترامب وهاريس بتشوق وبتمعّن. ذلك أن هناك اليوم فرصة لفوز هاريس بالرئاسة فيما كانت إمكانية فوز بايدن شبه معدومة في أعقاب مناظرته الكارثية مع ترامب.

تحاول هاريس أن تبدو أكثر مرونة وتأقلماً من ترامب الذي يكبرها بحوالى 18 سنة، ولقد استقطبت انتباه قادة العالم بعدما زالت الحماسة القاطعة لترامب والتفاؤل بفوزه عند البعض. ما تقوله هاريس للناخب الأميركي وللعالم أنها تستحق النظر إليها بمعزل عن بايدن لأن لديها جديداً. ويحاول ترامب أن يحذر من تقلّب هاريس وقلة خبرتها في الشؤون الدولية وخطورة قيادتها.

إذا استمعنا جيداً لفحوى فلاديمير بوتين وأسلوبه عندما قال إنه يدعم هاريس للرئاسة، فسنجد أن بوتين كان نصف جدّي في كلامه حتى وإن كان يتهكّم ويسخر. فروسيا، شأنها شأن الصين وكل الدول، بدأت تضع استراتيجيات مبنية على احتمال وإمكانية أن تصبح كامالا هاريس رئيسةً.

أكبر هدية يمكن أن يقدمها ترامب إلى هاريس في المناظرة هي الاستخفاف بها كمرشحة جديّة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف