أوهام الكلاسيكيات الخالدة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالرحمن الحبيب
تعدّ المعلقات أروعَ ما قيل في الشِّعْرِ العربيِّ القديم وأنفسَه، وكذلك قصائد جرير والفرزدق، أبو تمام والمتنبي.. إلخ؛ إنها ما يمكن أن يطلق عليه القصائد الخالدة في الشعر العربي؛ لكن ألا يوجد في ركام تاريخ الأدب قصائد عظيمة لم تأخذ شهرة أو منسية تنافس أو تتفوق على هذه الأعمال الشعرية؟ وهل هناك معيار متين وموثوق للذوق في الأمور الفنية والأدبية، أم أن المسألة نسبية تخضع لتفاعلات الفترة الزمنية مع الظروف الثقافية والاجتماعية؟ فحتى المتنبي الذي لم يحظَ شاعرٌ من شعراء العربيّة بمثل ما حظي به من مكانةٍ عالية وقيل عنه «مالئ الدُّنيا وشاغل الناس» ناله من النقد الشديد لدرجة أن القاضي الجرجاني (ت سنة 392) ألف كتاب «الوساطة بين المتنبي وخصومه»! الإجابة عن ذلك متروكة للبحث الذي قد تكون نتائجه مفاجئة..
من المفترض أن تحمل كلاسيكيات الفن والأدب والموسيقى جاذبية غامضة تستمر عبر العصور، فهل فعلاً هناك كلاسيكيات خالدة؟ المؤرخة والناقدة روشيل جورستين التي ظلت لسنوات طويلة تبحث في هذا المجال أصدرت كتاباً جديداً، وظهر لها أن «الكلاسيكية الخالدة» ليست كذلك على الإطلاق، تقول: «ما اعتقدت أنه مكتوب على الحجر كان في الواقع مكتوبًا على الماء»؛ ومن هنا جاء عنوان كتابها «مكتوب على الماء: الحياة العابرة للكلاسيكية في الفن» (Written in Water: The Ephemeral Life of the Classic in Art)..
الكلاسيكيات تأتي وتذهب، حسب جورستين التي حاولت استكشاف وتأسيس أساس متين للكلاسيكية في تاريخ الذوق؛ ولدهشتها، كشف لها هذا التاريخ بدلاً من ذلك عن سلسلة من الوقائع التي تارة ترفع سمعة عمل فني وتارة تخفضه حسب فترات معينة وظروفها الاجتماعية والثقافية.. ففي فترات تتم إعادة اكتشاف فنانين منسيين منذ فترة طويلة، وتحولات جذرية صادمة في المعايير، وكلها كانت تتعارض تمامًا مع المعرفة العامة الحالية لدرجة أنه كان من الصعب تصديق أنها كانت حقيقية.
من أين جاءت فكرة الكلاسيكية الخالدة؟ وكيف أصبحت موضع نزاع شرس؟ هذا ما تحاول جورستين الإجابة عنه من خلال استعادة الخلافات حول الأعمال الفنية من القرن الثامن عشر إلى نهاية القرن العشرين، تأخذنا من خلاله إلى أرض جمالية وذوقية غير مألوفة، وتوفر بديلاً تاريخيًا غنيًا بالخيال للأوصاف والتفسيرات التي قدمها كل من المنظرين الثقافيين التقدميين الذين يهاجمون الذوق السائد، وأولئك الذين يواصلون التشبث بمثال القيم العالمية المتجسدة في الكلاسيكية، مقدمة كلا الطرفين من خلال عيونهم وما يشعرون به.
في حوار مع المؤلفة أجرته جامعة ييل تقول المؤلفة: إذا ذهبت إلى القسم المخصص لعصر النهضة، فسوف تجد أن مايكل أنجلو وليوناردو دافنشي هما اللذان يحتلان نصيب الأسد من الكتب، لأنهما يعتبران، حتى من قِبَل الناس الذين لا يهتمون كثيراً بالفن، أعظم فناني عصر النهضة؛ لكن قبل نهاية القرن التاسع عشر، شعرت بالصدمة عندما علمت أن الأمور تختلف كثيراً: فقد كان رافائيل هو الذي اعتُبِر أعظم فنان، في حين كانت سمعة مايكل أنجلو تتأرجح بين الصعود والهبوط، ونُسِيَ ليوناردو دافنشي إلى حد كبير، وكانت اللوحات الجدارية التي رسمها رافائيل في الشقق البابوية تستحوذ على انتباه كل فنان ومحب للفن..
هل تمكنت من إرساء معيار موثوق للذوق في الأمور الفنية؟ أم أن الذوق نسبي بكل بساطة؟ جورستين: لقد وجدت أن المعيار الموثوق للذوق يمكن إرساؤه عندما يُفهَم باعتباره عملاً فنياً يجسد أهداف وتطلعات وامتيازات ممارسة فنية؛ ففي الممارسة الكلاسيكية للفن، والتي استمرت من القرن السادس عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، كانت المنحوتات القديمة ورسامو عصر النهضة العليا الذين قلدوا وحاولوا منافستها تعتبر نماذج، وبالتالي، المعيار الوحيد الذي لا جدال فيه للذوق؛ إنما عندما يكون الذوق متجذرًا بشكل آمن في ممارسة فنية، لا يصبح نسبيًا.
ما دامت ممارسة الفن في حالة عمل جيدة ويشعر الفنانون والمشاهدون بأنهم جزء من استمراريتها الفكرية والجمالية، فيمكنهم الحكم بثقة على الأعمال الفنية، سواء الحالية أو الماضية؛ إنما المشكلة تبدأ إذا استنفدت الممارسة، ففي مثل هذه اللحظات، وهي حدثت بشكل متزايد خلال القرن العشرين، يقوم الفنانون الأكثر طموحًا بالابتكار، ومن خلال رغبتهم في الاستمرار، غالبًا عن غير قصد، يؤدي ذلك إلى إدخال معيار منافس للذوق. وبينما قد يتمكن المشاهدون الملتزمون بالنماذج القديمة من التعرف على نموذج الأسلوب المنافس، فإن كيفية حكم المشاهد أو شعوره تجاه الفنان أو الحركة الفنية المعنية هي مسألة أخرى؛ هنا نقول إنها مسألة ذوق، والذوق في هذه الحالة مفتوح للخلاف - نسبي - لأنه لا يقوم على شيء أكثر أهمية من مشاعر المشاهد الشخصية ومواقفه وتفضيلاته.
تقول المؤلفة عن نسيان روائع رافائيل التي كانت هي التعريف الحقيقي للكلاسيكية الخالدة: «إن حقيقة أن فنانًا كان يعني الكثير لكثير من الناس يمكن أن يتعرض من مثل هذا السقوط المذهل من الامتياز قد عرض مشروعي الأصلي لإثبات وجود شيء مثل الكلاسيكية الخالدة للخطر، وأجبرني على إعادة التفكير في العديد من افتراضاتي المسبقة وافتراضاتي غير النقدية، مما أدى في النهاية إلى الكتاب الذي كتبته.