ميشال بارنييه وأسرار "بريكست"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أحمد نظيف
أخيراً تصاعد الدخان الأبيض من مدفئة الإليزيه، واختار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الديغولي ميشال بارنييه رئيساً للوزراء بعد صيفٍ قضته فرنسا بلا رئيس حكومة. عاد الرجل السبعيني من بعيد إلى السلطة، بعد محاولة غير موفقة ليكون رئيساً في انتخابات 2022. لكن المحطة الأساسية في سيرة بارنييه السياسية هي دوره في مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتي رواها بتفصيل في كتابه الذي كتبه بعد تقاعده "الوهم الكبير: مذكرات سرية لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي" حيث شرح دوره ككبير مفاوضي مسار "بريكست"، من عام 2016 إلى عام 2020، من خلال منظور شخصي، حول المفاوضات التي تجرى خلف الكواليس وتحديات التكامل الأوروبي.
ظهر الكتاب في شكل مذكرات، يحكي فيها بارنييه السنوات الأربع التي قضاها ككبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي، ويقدم نظرة كانت حبيسة واجبات التحفظ إلى المناقشات الداخلية داخل الاتحاد الأوروبي. والتفاعلات المعقدة مع الدبلوماسيين والسياسيين البريطانيين. يشرح الرجل بتفاصيل غير مسبوقة عقلية مفاوضي الاتحاد الأوروبي بعد استفتاء عام 2016، حيث يسلط الضوء على الصدمة والارتباك والحاجة الملحة للحفاظ على وحدة الدول الأعضاء في الاتحاد البالغ عددها 27 دولة في مواجهة تحد غير مألوف. ثم يتناول كل مرحلة من مراحل المفاوضات، من المادة 50 إلى اتفاقية الانسحاب، بما في ذلك الأزمات المتعددة والتسويات والمآزق التي تخللت العملية.
إحدى نقاط القوة في هذه الشهادة هو طابعها الحميمي والغني بالمعلومات والتي تساعد على فهم دوافع الدول الأعضاء في الاتحاد، والديناميكيات الداخلية للكتلة الأوروبية، فضلاً عن الجهود المبذولة للحفاظ على الوحدة في مواجهة التعقيد المتزايد لخروج بريطانيا من الاتحاد. وقد نجح إلى حد ما في موضوعية نسبية أثناء مشاركته المباشرة في الأحداث التي يرويها.
وبعيداً عن السرد التاريخي البسيط للمفاوضات، فإن شهادة بارنييه تشكل أيضاً تأملاً في الاتحاد الأوروبي ذاته. فهو شديد التعبير عن التزامه أوروبا وقيمها الأساسية، التي يحصرها في التضامن والتعاون والسلام، على حد قوله. كما يقدم أيضاً ملاحظات ثاقبة حول الحاجة إلى إصلاح الاتحاد الأوروبي لجعله أكثر كفاءة وأكثر ديموقراطية وأقرب إلى مواطنيه، وهي موضوعات أصبحت أكثر أهمية في سياق ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد. وعلى رغم أنه لا يوجه هجوماً مباشراً ضد السياسيين البريطانيين، إلا أنه يسلط الضوء على ما يعتبره أخطاءً استراتيجية من جانبهم. فهو ينتقد عدم استعداد بعض المفاوضين البريطانيين، ورؤاهم المتناقضة، وميلهم إلى التقليل من أهمية تماسك الاتحاد الأوروبي ومرونته. ويصف المفاوضات بأنها عملية اتسمت بعدم فهم الحقائق السياسية والاقتصادية الأوروبية من جانب المملكة المتحدة.
لكن اللافت في الكتاب هو ما يكيله بارنييه لنفسه من مديح على مدى الفصول المتلاحقة، مسلطاً الضوء على نهجه الدبلوماسي والبراغماتي. فهو يعرض المفاوضات باعتبارها تمريناً في إدارة الأزمات والقدرة على الصمود المؤسسي، ويبين كيف تمكن الاتحاد الأوروبي من التكيف مع حالات عدم اليقين والأحداث غير المتوقعة. ويوضح هذا المنظور رؤيته إلى أوروبا المستقرة والقوية، القادرة على مواجهة التحديات مع الحفاظ على وحدتها ومبادئها، على حد تعبيره.
وعلى رغم أن شهادة بارنييه غنية بالتفاصيل والتأملات الشخصية، إلا أنها تفتقر إلى الفروق الدقيقة في ما يتعلق بالأخطاء أو القيود المفروضة على نهج الاتحاد الأوروبي نفسه. فعلى سبيل المثال، لم تتم معالجة الانتقادات الموجهة إلى الاتحاد الأوروبي في ما يتعلق ببيروقراطيته أو افتقاره إلى المرونة في أجزاء معينة من المفاوضات بما يكفي. بالإضافة إلى ذلك، يتبنى بارنييه أحياناً نبرة دبلوماسية للغاية، ما قد يترك القارئ يرغب في المزيد من الكشف المباشر أو الانتقادات الصريحة. وباعتباره الفاعل الرئيسي في هذه المفاوضات، فإن وجهة نظر بارنييه قد تفتقر في بعض الأحيان إلى مسافة حاسمة من الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، يظل عمله بمثابة قراءة أساسية لفهم تعقيدات خروج بريطانيا من الاتحاد وقضاياه، فضلاً عن الدور الحاسم للاتحاد الأوروبي في إدارة هذه الأزمة غير المسبوقة.
وتظل شهادته أيضاً أساسية لفهم تعقيدات شخصيته السياسية، المقبلة على أزمة سياسية، ربما تكون الأشد تعقيداً في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة. فنحن إزاء وجهين للرجل. وجه أول، يدافع عن أوروبا الموحدة والديموقراطية والمسالمة، وقد شغل منذ عام 1999 مناصب عليا في المؤسسات الأوروبية، بدايةً من موقع المفوض الأوروبي المسؤول عن السياسة الإقليمية تحت رئاسة رومانو برودي، ثم مسؤولاً عن السوق الداخلية والخدمات تحت رئاسة خوسيه مانويل باروسو. ولعب دوراً رئيسياً في تنفيذ الإصلاحات التنظيمية للاتحاد الأوروبي بعد الأزمة المالية عام 2008. ووجه ثانٍ، هو وجه اليميني الديغولي الصارم الذي يتبنى في الوقت نفسه بعض أفكار اليمين المتطرف حول الهجرة والسيادة. فقد طالب قبل أسابيع، خلال الأيام البرلمانية لحزب الجمهوريين باستعادة السيادة القانونية الفرنسية، والتي أصبحت بحسب رأيه مهددةً من محكمة العدل الأوروبية والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. وهو ما دفع النائب البريطاني المحافظ مايكل فابريكانت إلى القول ساخراً: "يا له من نفاق! ميشال بارنييه نفسه الذي حاول التقليل من شأن المملكة المتحدة من خلال المطالبة بالسيطرة على مساراتنا وحدودنا".