ويحك سوريا... هل تشتعلين من جديد؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سمير التقي
في الفصل الثالث عشر من كتابه "ليفاثان"، يناقش المفكر البريطاني الكبير توماس هوبز، ما وصل إليه المجتمع البريطاني إبان الحرب الأهلية من تفكك، لينهار الولاء للدولة ويصبح الولاء سوقياً، لتحل محله "علاقات غريزية لمجتمعات منعزلة، وقبائل وعشائر، متناحرة. ليعيش الناس حياة مدقعة، وحشية، وقصيرة"، حيث "الكل ضد الكل" في حرب جرفت حينها بريطانيا نحو القاع.
تحت وطأة صراع الكل ضد الكل، تتدحرج سوريا نحو هاوية أعمق فأعمق. وتتحلل تحللاً بطيئاً ومدهشاً، سلطاتُ الأمر الواقع على اختلافها، واختلاف مشاربها، ويتفاقم معها تفكك المجتمع تحت وطأة انهيار الاقتصاد، والأسرة، والأمن الفردي، والجماعي.
والأنكى، أنه في أوج التراجيديا العالمية الضاربة، لم تعد سوريا إلا واحدة من المآسي المتكاثرة. بل إنها، وحتى مقارنة بأكثر مآسي العالم بؤساً، كما في السودان والصومال، تتفوق تلك بفوضى متعددة الأبعاد، وبتعدد المتدخلين، لتصير مكسر عصا وحشياً ضد كل سوري.
للوهلة الأولى، بدا الاغتيال والاختطاف والقصف مجرد يوميات منعزلة، تحدوها الفوضى وانعدام الأمن. لكن تفاقم الفوضى وتضافرها، ينضج ويختمر الثقب الأسود السوري ليس داخل كل إمارة، بل على الصعيد الوطني.
تؤكد المتابعات البحثية الميدانية للوضع السوري حقيقة تداعي سلطات الأمر الواقع بكل مسمياتها، من دمشق إلى الحسكة إلى إدلب. وتنمو الصراعات داخلها وضد جيرانها على حد سواء. وتظهر جماعات مسلحة جديدة، تطور قدراتها وتسليحها. تسقط هذه التحولات قدرة سلطات الأمر الواقع على وقف تفككها ذاتها، بل تصبح هي ذاتها جزءاً فاعلاً فيه.
وكما في زمن هوبز، فإن العامل البارز الجديد والأهم يمكن في حقيقة انتفاض المجتمعات المحلية في مواجهة جميع أمراء الحرب، لتجبرهم على التفاوض والخضوع.
فبعدما اعتبر نظام الأسد محافظات الجنوب "نماذج" للخضوع، تنهض القوى المحلية، وقوات "المصالحات" بخبرات قتالية معتبرة، لتشل قدرات السلطة المركزية وتفرض سلمها الأهلي المحلي أمام تعسف أمراء الحرب ونهبهم، وعصابات المخدرات.
ورداً على الاعتقالات والاختطاف، تهاجم القوى المحلية مراكز المخابرات ونقاط التفتيش وتعتقل الضباط لتجبر النظام على التراجع والانكفاء، وهو ما لم يفعله من قبل قط.
بذلك، بعد 13 عاماً من الاختلاط اللامتناهي بين البشر والأيديولوجيات، تستضيف كل مناطق سوريا المئات من الفصائل المتعارضة والمدربة.
تشابه باقي مناطق البلاد محافظات الجنوب كما في حمص وحماة، وحلب، وصولاً إلى شرق الفرات. وتستشري الصراعات والفوضى في مناطق سيطرة دمشق حيث يطال الخطف والاعتقال والاغتيال، شخصيات مفتاحية، بدءاً بلونا الشبل وضباط القصر، وصولاً إلى القاطرجي المقرب من الرئاسة.
وفيما تتفكك من الداخل سلطات الأمر الواقع، وبسبب غزو أوكرانيا وحرب غزة، تنهار التوافقات الإقليمية والدولية المؤسسة لتجميد الصراع والهدوء نسبي منذ 2018. ويعود الصراع في سوريا وعليها بين هذه القوى، ليضاعف الفوضى الشاملة أضعافاً مضاعفة.
أولاً، بعد سحب التفويض الغربي لروسيا لتدبير الساحة السورية نهائياً، ورغم حرب أوكرانيا، تعود روسيا إلى نشر قواتها وتخصص المزيد من الموارد لقواتها البحرية والجوية، ويعود الطيران الروسي إلى قصف قوات المعارضة غرب الفرات لترد المعارضة عليه بضربات أصابت العديد من الجنود الروس. وفي التوازي تتصاعد احتكاكات القوات العسكرية الأميركية والروسية.
ومما له دلالته نشر روسيا قواتها على الحدود السورية - الإسرائيلية، الأمر الذي يوضح خشيتها من امتداد المجابهة المقبلة بين "حزب الله" وإسرائيل، لتطال النظام السوري. إذ يقع القصر الجمهوري في دمشق على بعد 55 كم تقريباً من تحركات القوات الإسرائيلية.
ثانياً، ورغم التوافقات التكتيكية الراهنة الجارية مع إيران، يمكننا أن نؤكد تبدل الموقف العام للغرب تبدلاً جذرياً. إذ لم يعد الاتفاق النووي ذا مغزى، لتصبح مهمة تدجين أذرع إيران ومنعها من تهديد الأمن الإقليمي والأمن الإسرائيلي بخاصة، الأولوية الرئيسية. لذلك، يبدو من السذاجة أن نعتقد أن المجابهة التي اندلعت في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي ستنتهي في أي وقت قريب.
ثالثاً، وفي السياق ذاته، وبعدما فقدت روسيا دورها كوسيط قوة بين كل اللاعبين، تتعزز مكانة تركيا كوسيط إقليمي بديل بعدما ترسخ دورها كركيزة راسخة للخاصرة الجنوبية لحلف الأطلسي، في وقت تبحث تركيا عن قطاف ثمرات دورها الاستراتيجي الحاسم.
ثم يأتي رابعاً، جوكر الفوضى الشئيم. إذ يلاحَظ نشاط غير مسبوق منذ 2017 لتنظيم "داعش". وبينما يعيش أفراده في صحراء مفتوحة أو مخيمات صغيرة، ويتحركون بسرعة ضمن "الأراضي الآمنة" بين القرى والنجوع، يستعد التنظيم حثيثاً لدورة جديدة من "التوحش". ولقد أعلن التنظيم أخيراً مسؤوليته عن 153 هجوماً في العراق وسوريا في النصف الأول من العام، لكن الخبراء يقدرون العدد الحقيقي لهجماته في سوريا وحدها بـ551 حداً أدنى، إذ تمتد هجماته علي كل الأطراف من محيط معاقلهم إلى المدن مثل الرقة ودرعا وحماة.
وفيما لا يزال أكثر من 10,000 داعشي في سجون أشبه بمراكز للتعبئة والتجنيد الجهادي، يوحد أترابهم الصفوف، ويكتسبون قدرات متزايدة خارج السجون. وليست عملية الهروب الجماعية من سجون "قسد" 2022، لأكثر من ألف داعشي، ومقتل أكثر من 100 من عناصر "قسد"، إلا اختباراً للمستقبل. ففيما لا يبدو أن "داعش" قادر على شن حرب واسعة، إلا أنه بما لديه من قدرات يتسبب بفوضى هائلة.
ثم هناك خامساً تجارة المخدرات، التي صارت مصدر تمويل لا غنى عنه لأمراء الحرب وقوى الفوضى. وبحسب تقدير الخبراء، وصلت القدرات التصنيعية لهذه التجارة إلى عشرين مليون حبة شهرياً، قيمتها مليارات الدولارات. وفيما يدير نظام دمشق وحلفاؤه قسماً مهماً منها، تنتشر هذه التجارة في كل الأصقاع، لتتصاعد معها صراعات النفوذ بين العصابات المدعومة من أمراء الحرب. وبدورها ترد المجتمعات المحلية بحرب خفية ضد كبار تجار المخدرات وعناصرهم.
بين الفوضى والتداعيات الخارجية، تقف سوريا على صفيح ساخن، يوشك أن يفجر حروباً متجددة صغيرة وكبيرة تعزز فوضى الكل ضد الكل، وتدفع نحو تداعي ما تبقى من "أنظمة" الأمر الواقع في كل البلاد.
وكما قلنا مراراً: "من دون الدخلاء، ليس ثمة حرب في سوريا، لكن من دون توافق السوريين لا سلام أبداً فيها". دعونا نأمل ألا تتحقق هذه الأخطار الوشيكة أبداً! لكن، لنستعد لاحتمال حدوثها بكل جدية.