انطباعات أوّليّة وسريعة وغاضبة على هامش الحرب
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
- مرّة أخرى، البشر مجرّد تفصيل عارض. أولئك المدنيّون البؤساء والمنكوبون الذين يبكون أحبّة لهم قُتلوا، وبيوتاً هُدمت، وحياةً سوف يواجهونها بالافتقار والكفاف...، هؤلاء مجرّد رقم أو مشهد نتابعه على التلفزيون.
ما من أحد يأخذ هؤلاء في اعتباره حين يضع خططه للحرب. رقمهم يُستحسن أن يكبر لأنّ فائدتهم الوحيدة، في غابة الحرب، أنّهم يقدّمون البرهان على وحشيّة العدوّ الإسرائيليّ. إنّهم وثيقة صالحة «لتأكيد صحّة ما قلناه»، ولا زلنا نقوله منذ مئة عام.
- الكرامة؟ تهجير الجنوبيّين والبقاعيّين (بعد الغزّيّين) بمئات آلافهم هو الكرامة بعينها. ما المشكلة؟ قد يدعوهم، بعد سنة، أو سنتين، أو عشر سنوات، زعيم آخر، أو ربّما الزعيم نفسه، كي يعودوا إلى بيوتهم في انتظار أن يُهجّروا مجدّداً. هذه الدعوة سمعناها ورأيناها قبل أسابيع قليلة فقط، وهي تهبط منّةً على السكّان من موقع العتوّ والأبّهة.
الكرامة هذه نمارسها على هذا النحو منذ أواخر الستينات، لم نخذلها مرّة ولم تخذلنا. هكذا صرنا، نحن الشعب اللبنانيّ، أكثر شعوب الأرض كرامة!
- إعلان الهزيمة بشع وموجع، وهو بالطبع يرتّب كلفة باهظة على من يعلن ذلك. إلاّ أنّ تلك الكلفة تتضاءل حين تقاس بأكلاف المقاومة والصمود. هل تريدون أرقاماً، أم أنّ الأمر روح هائمة لا تقاس بالأرقام فيما تتعالى على كلّ معطى وكلّ ملموس؟
- يتراءى أحياناً أنّ تاريخنا لا يفعل إلاّ التكرار، مُقدّماً ما يكفي من الحجج لمن يرموننا بالماهيّة والجمود. نُحتَلّ فنقاوم، ونقاوم فنُحتَلّ، وهكذا دواليك حتّى قيام الساعة. أمّا حين تتباطأ هذه المعادلة في اشتغالها فنكون في وقت ضائع، مستسلمين لحياة عاديّة خالية من الشرف والكرامة. قاوموا إذاً، ومضمونٌ لكم أن تُحتَلّوا، ثمّ أن تقاوموا وأن تُحتَلّوا... وأن تعيشوا دائماً في الملاحم.
- هل ثمّة من يُخبرنا ما هي السويّة التي إذا بلغناها نوقف القتال أو نعلن الهزيمة؟ كم شخصاً ينبغي أن يُقتل؟ كم مساحة الأرض التي ينبغي أن تُحتلّ؟ كم عدد البيوت التي ينبغي أن تُهدم؟ كم من المواسم الزراعيّة ينبغي أن تُحرق؟ أيّ واحد من المعايير قابل لأن يؤخذ به شرط أن يكون هناك معيار.
النظام الإيرانيّ، على ما يبدو، وضع معياراً قرّر بموجبه الانتقال إلى «الاعتدال». النظام السوريّ سبقه بأن وضع معياراً دفعه إلى السكينة والتنصّل. نحن، في لبنان، معيارنا انكسار إرادة المقاومة، وإرادة المقاومة لا تنكسر بطبيعة الحال، لأنّها «من إرادة الله». هل ثمّة شيء قابل للرؤية في عالم الأرواح هذا؟
- بعد التحرير الذي يعدنا به البعض، وبعد إزالة الكيان الغاصب التي يعدنا بها الجناح الأشدّ مرونة من البعض إيّاه، ماذا سوف نفعل؟ ما هو برنامجنا؟ برنامج؟ يا لها من كلمة سمجة!
- مأساة الفلسطينيّين تنضاف إليها مأساة استخدام فلسطين حتّى أنّ الكلمة نفسها صارت ترادف المصيبة على اللبنانيّين والسوريّين بعد الفلسطينيّين. ثقافة اقتراح المصيبة على الشعبين باتت تشكّل التيّار العريض والسائد من الثقافة السياسيّة العربيّة.
- هناك شيء كبير انتهى، وإن استمرّ إنكار نهايته. النهاية والإنكار معاً يجعلان الموت مضاعفاً.
في لبنان على الأقلّ، هناك أكثريّة يُفترض أنّ تكون المأساة الراهنة قد وسّعتها وصلّبتها. هذه الأكثريّة لا تريد العيش، جيلاً بعد جيل، مغلوبة على أمرها، لا يُسأل رأيها في حياتها وموتها لمجرّد أنّ «قبضة من رجال الكرامة شاءت أن تقاوم». ما تبنيه يُهدم وما تحلم به يُبدّد لمصلحة هذا العبث المحض المكلّل بالأكاذيب والكلام الهوائيّ المنتفخ. هؤلاء أفراد يحبّون بلدهم ويحبّون الحياة في الوقت نفسه.
- من يلقي نظرة، ولو سريعة، إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ يُرعبه مدى التكارُه الطائفيّ الذي أطلقته هذه الحرب، والذي كثيراً ما يتقاطع مع انقسامات وطنيّة أو جهويّة. ألم يعدنا فرسان الحرب بوحدة جامعة لا يحقّقها شيء كما يحقّقها الصراع مع العدوّ الصهيونيّ؟ إنّها نبوءة أخرى تتحقّق أمام أعيننا!
- هذه الحرب، في حدود مسرحها اللبنانيّ، تتويج لعمل مديد ودؤوب من تدمير لبنان: تدميره بوصفه مساحة متواضعة للحرّيّة والسلم والانفتاح على العالم، وتدميره بوصفه شيئاً قابلاً للإصلاح وللتغيير، كما تبيّن حين استُحضرت حرب 2006 للقضاء على مناخ 14 مارس (آذار) 2005، وحين استُحضر فتيان الكرامة، في طريق عودتهم من الإبادة السوريّة، للقضاء على 17 أكتوبر (تشرين الأول) 2019.
نعم، هكذا ينبغي أن نكون وأن نبقى، نقاوم ونُحتلّ ثمّ نُحتلّ ونقاوم، ونتحوّل إلى مقبرة كبرى تسمّيها الثقافة العربيّة السائدة ملحمة كبرى من الذوبان في عشق فلسطين.