العزلة المستحيلة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أطل مصطلح الترامبية، في فضاء الاجتماع السياسي الأمريكي منذ بضع سنين، ليلخص ما صدر عن دونالد ترامب من أقوال وأفعال. لكن تلك الإطلالة التي انشغلت بها دوائر صحفية وفكرية وسياسية أمريكية محدودة أثناء ولاية ترامب الرئاسية الأولى وبعدها بمدة وجيزة، اكتسبت مؤخراً أرضية واسعة داخل السياق الأمريكي وخارجه.
بعض الأقلام سريعة الانفعال والتقييم، تلوك المصطلح على سبيل السخرية من تصرفات رجل تسيد البيت الأبيض لأربعة أعوام خلت، ويسعى باستماتة للعودة إلى هذا المقام الرفيع باعتباره مهووساً بالحكم، متقلب المزاج ويبث أفكاره ومعتقداته برعونة، لديه شعور بتضخم الذات واستصغار شأن الآخرين، بما في ذلك شركاء تاريخيين واستراتيجيين بكل المعاني للدولة الأمريكية.
«الترامبية» عند هؤلاء خلطة نظرية لا تبتعد عن طبيعة الرجل الصاخب الذي تنسب إليه.. وهي في أفضل المقاربات وأعقلها تشير داخلياً إلى الآليات والوسائل التي يمكن بها اكتساب السلطة والحفاظ عليها. وبعض هذه الوسائل أميل إلى خرق القانون.. أما خارجياً فتعني التعامل وفق آيديولوجية البيض الأنجلوساكسون، لاسيما المسيحيين الانجيليين الذين يودون التخفف من غلواء القيم العلمانية، وإحياء شعار مؤسسي الدولة الأوائل أمريكا العظيمة قبل كل شيء.
تقديرنا أن مثل هذه المعالجات، لا تخلو من السطحية وقلة التدبر.. ذلك لأن مضامين الترامبية ومفرداتها التفصيلية، ليست من البدع أو المحدثات التي أنتجها ترامب نفسه.. فهو بهذا المفهوم مجرد حلقة في سلسلة تيار فكري وأيديولوجي اجتماعي اقتصادي سياسي لم يغادر الدولة الأمريكية منذ نشأتها.. ثم إن الحديث هنا لا يتعلق بعابر سبيل، بل بزعيم حزبي سبق له تولي منصب الرئاسة.. ويجد اليوم من يؤمنون به ويتبنون برامجه وينصرونه لاعتلاء القمة مجدداً.. ويشكل هؤلاء مروحة اجتماعية واسعة، قوامها تقريباً نصف كتلة الناخبين!
فيما يخص العلاقات الخارجية التي تعنينا في هذا المقام، يشكك الترامبيون في جدوى التحالفات الأمريكية في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.. ولا يحفلون كثيراً بشراكة «الناتو»، ولا تستهويهم أحاديث حاجة دولتهم للأمن من خارج حدودها لأنها مكتفية أمنياً بذاتها وتستطيع ممارسة حياتها بمنأى عن التغلغل في ميادين، لا تجلب لها سوى وجع الرأس والنفقات الباهظة. وعوضاً عن الانتشار المكلف وغير المفيد أساساً، يعتقد هؤلاء أن واشنطن يمكنها إدارة التوترات الخارجية عبر الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية والسياسية، وأية وسائل أخرى تقيها أعباء التورط المباشر.
هذه المنظورات ونحوها لا تخالف جوهرياً وصايا بعض الآباء المؤسسين للدولة، مثل جورج واشنطن، وتوماس جيفرسون، وجيمس مونرو، التي تندرج تحت مبدأ عدم التدخل أو الانجرار إلى الاضطرابات الخارجية، الأوروبية منها بالذات.
ترامبية اليوم تحمل شبهة إعادة إنتاج هذه المنظورات التي يمكن وصفها مجازاً بـ«الترامبية القديمة». وفي معرض تفنيد هذه المنظورات ومساجلة معتنقيها المعاصرين، لا يصح اللجوء للاستهزاء بترامب، استناداً إلى سفاهة بعض أساليبه الشكلية في الجدل والنقاش.. الأكثر جدوى من ذلك إبراز الاختلافات المذهلة بين عالمي الأمس واليوم، والتباينات القياسية بين معطيات ومستويات حضور الولايات المتحدة وانغماسها فيهما.. الأمر الذي يتعاكس على طول الخط مع أحانين لملمة أوراقها وانعزالها خلف المحيط.
نحن راهناً إزاء دولة لا يتعدى قاطنوها نسبة 4.2 % من سكان المعمورة.. لكنها تملك أصولاً عالمية تزيد قيمتها على 30 تريليون دولار، وتمثل أكثر من 25 % من الناتج الإجمالي العالمي وأكثر من 10 % من التجارة الدولية، ويشغل دولارها نحو 60 % من مجموع احتياطيات البنوك المركزية، ويسيطر على نحو 70 % من المعاملات الاقتصادية حول العالم.. وبها أكبر مراكز الأوراق المالية على ظهر الأرض.. وهي أكبر سوق استهلاكية في العالم، وقد صدرت واستوردت في العام 2022 فقط سلعاً وخدمات بنحو 7 تريليونات دولار.. ولها زهاء 835 من القواعد والمكونات العسكرية المبثوثة في أكثر من 80 دولة.. وجيوشها الأقوى عالمياً على صعد التسلح التقليدي وغير التقليدي والانتشار في البر والبحر.
هذا كله ونحوه، يفسر معالم النفوذ والتغلغل والمصالح الأمريكية، الوازنة تكتيكياً واستراتيجياً في جهات الدنيا الأربع التي تكاد تجعل واشنطن طرفاً معنياً تقريباً بشكل مباشر أو غير مباشر بكل صغيرة وكبيرة من القضايا الدولية الباردة والساخنة. العبرة أنه لا توجد إلى أجل غير معلوم موجبات أو حقائق موضوعية، تسمح باعتكاف الولايات المتحدة عن رحاب التفاعلات الدولية، أقله بالمعنى المتطرف الذي يعنيه بعض الترامبيين.