هل تكون الحقيقة ضحية حروب المعلومات؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبدالرحمن الحبيب
يقال إن المؤرخ الإنجليزي أرنولد توينبي صاحب موسوعة دراسة التاريخ، سئل مرة: ما رأيك في مصداقية الأحداث التاريخية؟ فرد : حدثت مشاجرة أمام بيتي، وبعد 6 ساعات سمعتها من الجيران بست روايات مختلفة! فما بالك بأحداث جرت منذ مئات السنين!؟
المعلومات تنهمر علينا كل لحظة وبها خلط بين الحقيقة والخيال، وبين العاطفي المنحاز والموضوعي المحايد، بين الصادق والمضلل، حتى تلك المقولة أعلاه المزعومة لتونبي يبدو أنها ملفقة، فقد بحثت عنها في المصادر الإنجليزية ولم أجدها، فيما نحن نندفع بسرعة إلى عصر الذكاء الاصطناعي وشبكة معلومات هائلة تتجدد باستمرار وتهدد منهجية معارفنا لتنتج خليطاً بين معلومات مفيدة وأخرى مضللة.
المزيد من المعلومات ليس دائمًا أفضل وليس من المرجح أن يؤدي إلى الحقيقة، رغم أن الحقيقة الموضوعية موجودة في المعلومات ولكن حروب المعلومات على وشك أن تزداد سوءًا.. هذه من أطروحات كتاب جديد بعنوان « نكسس: تاريخ موجز لشبكات المعلومات من العصر الحجري إلى الذكاء الاصطناعي» لمؤلفه المؤرخ يوفال هراري.. (Nexus: كلمة لاتينية تعني رابط بين الأشياء أو الأحداث خاصة تلك التي تكون جزءًا من سلسلة سببية).
يتناول الكتاب سلسلة التاريخ البشري الطويلة للنظر في كيفية تشكيل تدفق المعلومات لنا ولعالمنا؛ من خلال أخذنا من العصر الحجري، عبر الحضارات القديمة، وبدايات العصر الحديث، والستالينية، والنازية، إلى عصر الذكاء الاصطناعي وعودة الشعبوية في عالم اليوم، محاولاً استكشاف العلاقة المعقدة بين المعلومات والحقيقة، والبيروقراطية والأساطير، والحكمة والقوة؛ وكيف استخدمت المجتمعات والأنظمة السياسية المختلفة عبر التاريخ المعلومات لتحقيق أهدافها.
يطرح المؤلف أن المعلومات ليست المادة الخام للحقيقة، كما أنها ليست مجرد سلاح بل تستخدم القصص لربط مجموعات من الناس.. ويقترح أن الدروس المستفادة من التاريخ يمكن أن توفر التوجيه في التعامل مع التحديات الكبرى المتعلقة بالمعلومات في الوقت الحاضر، وأهمها التأثير السياسي للذكاء الاصطناعي والمخاطر الجسيمة التي يفرضها التضليل.. هذا الطرح تعرض لبعض النقد في مبالغته بتلك المخاطر ووضعه لتصورات مستقبلية كابوسية.
نقطة انطلاق المؤلف هي تعريف جديد للمعلومات نفسها، حيث يقول إن معظم المعلومات لا تمثل أي شيء، وليس لها رابط أساسي بالحقيقة، إذ إن السمة المميزة للمعلومات ليست البيان والتوضيح بل الاتصال؛ إنها ليست وسيلة لالتقاط الواقع بل وسيلة لربط وتنظيم الأفكار، والأهم من ذلك، ربط الناس، فهي «رابط اجتماعي»؛ فقد كانت تقنية المعلومات القديمة، مثل القصص أو الألواح الطينية أو النصوص الدينية، ثم الصحف والإذاعة في وقت لاحق، طرقاً لتنظيم النظام الاجتماعي، حسب الكتاب.
إن نقض الأسطورة، التي قد تكون جذابة ولكنها قد لا تكون دقيقة، هو البيان الموضوعي الذي يحاول بشكل ممل التقاط الواقع، ويؤدي إلى ظهور البيروقراطية، بينما تحتاج المجتمعات إلى كلاً من الأساطير والبيروقراطية للحفاظ على النظام.. والمؤلف يعتبر إنشاء النصوص المقدسة وتفسيرها وظهور المنهج العلمي نهجين متناقضين في التعامل مع أسئلة الثقة والخطأ، والحفاظ على النظام مقابل إيجاد الحقيقة، حسب عرض مجلة الإيكونيميست.
المؤلف يخشى أن ينطبق نفس الشيء اليوم على الذكاء الاصطناعي: فالقرارات التي اتخذت بشأنه الآن سوف تشكل مستقبل البشرية؛ ويفترض المؤلف أن الذكاء الاصطناعي يجب أن يمثل حقا «الذكاء الغريب» ويخشى أن يأخذ الذكاء الاصطناعي نوعاً جديداً من القداسة «أنواعا جديدة من الآلهة»، وأن تتفاقم المخاطر المرتبطة بالحاسوب مثل التحيز الخوارزمي والتطرف عبر الإنترنت والهجمات الإلكترونية والمراقبة الشاملة بسبب الذكاء الاصطناعي، ويتوقع أن يخلق الذكاء الاصطناعي أساطير جديدة خطيرة وطوائف وحركات سياسية ومنتجات مالية جديدة تؤدي إلى انهيار الاقتصاد.
ولكن بعض السيناريوهات الكابوسية التي يتخيلها المؤلف تبدو غير معقولة كما تقول الإيكونيميست؛ فهو يتخيل حاكماً مستبداً يصبح مديناً لنظامه للمراقبة بالذكاء الاصطناعي، وآخر يسلم السيطرة على ترسانته النووية إلى الذكاء الاصطناعي بدلاً من وزير دفاعه بسبب عدم ثقته فيه.. وتبدو بعض مخاوفه خيالية: فهو ينتقد موقع TripAdvisor، وهو موقع إلكتروني يصنف فيه السياح المطاعم والفنادق، باعتباره يمثل رعب «نظام مراقبة من نظير إلى نظير» الذي يربط بين أجهزة المراقبة وهاتفك الذكي وكمبيوترك الشخصي.. والمؤلف لديه عادة الخلط بين جميع أشكال الحوسبة والذكاء الاصطناعي، وتعريفه لـ «شبكة المعلومات» فضفاض للغاية بحيث يشمل كل شيء من نماذج اللغة الكبيرة مثل ChatGPT إلى مجموعات صيد الساحرات في أوروبا الحديثة المبكر؛ ولكن سردية المؤلف جذابة، وتأطيره مبدع بشكل لافت للنظر، حسب الإيكونيميست.
المؤلف كمؤرخ يعترف أنه من خارج قطاع تقنية الحوسبة والذكاء الاصطناعي عندما يتعلق الأمر بالكتابة عنها، مما يمنحه منظوراً خارج الصندوق.. وقد يجد مختصو التكنولوجيا وعشاقها أنفسهم يقرؤون عن جوانب غير متوقعة من التاريخ، في حين سيكتسب مختصو التاريخ وعشاقه إدراكاً أفضل لمناقشة مجالات الذكاء الاصطناعي.